المسألة لأولى: في بيان طريق الورع والحث عليه. ولا خفاء بأن المكاسب المجتمع على تحريمها الربا، ومهور البغايا، والسحب، والرشا، وأخذ الأجرة على النياحة، والغناء، والكهانة، وادعاء الغيب، وعلى اللعب والباطل كله.
ومن الكسب الحرام المجتمع عليه، أيضًا، الغصب، والسرقة، وكل ما لا تطيب به نفس مالكه من مسلم أو ذمي. وكل هذه المحرمات يجب تركها، لكن لا ينبغي الاقتصار على تركها فقط، بل يترقى في المكلف إلى ترك المشتبهات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الحلال بين والحرام بين، وبينهما متشبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
قال الإمام أبو عبد الله: هذا الحديث جليل الموقع عظيم النفع في الشرع حتى قال بعض الناس: إنه ثلث الإسلام. وذكر حديثين آخرين هما الثلثان الباقيان.
قال: وإنما نبه أهل العلم على عظم هذا الحديث لكون المكلف متعبدًا بطهارة قلبه وجسمه، وأكثر المذام والمحزورات إنما تنبعث من القلب، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى إصلاحه، ونبه على أنه إصلاح لجملة الجسم، وأنه الأصل، والأحكام والعبادات التي يتصرف الإنسان عليها بقلبه وجسمه تقع فيها مشكلات وأمور ملتبسات، التساهل فيها وتعويد النفس الجرأة عليها يكسب فساد الدين والعرض.
فنبه صلى الله عليه وسلم على توقي هذه، وضرب لها محسوسًا لتكون النفس له أشد تصورًا والعقل أعظم قبولاً، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الملوك لهم أحمية لا سيما، وهكذا كانت العرب تعرف في الجاهلية أن العزيز فيهم يحمي بروجًا وأفنية، فلا يتجاسر عليها، لا يدني منها، مهابة من سطوته، وخوفًا من الوقوع في حوزته. وهكذا محارم الله سبحانه من ترك منها ما قرب فهو من توسطها أبعد ومن تحامى طرف الشيئ أمن عليه أن يتوسط، ومن طرف توسطه، فالمؤمن يكون على حذر. وبجانب كل ما ذكره الله سبحانه من مقال أو أفعال، أو تضييع ما فرض الله عز وجل عليه في قلب أو جارية، ويثبت في جميع الأحوال قبل الفعل والترك من العقد بالضمير أو فعل جارية حتى يتبين له ما يترك ويفعل، فإذا تبين له مال كره الله عز وجل جانبه بعقد قلبه وكف جوارحه عنه،