الله عز وجل لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في القتال والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم. فكانت أول آية أنزلت في إذنه له بالحرب، وإحلاله له الدماء والقتال، فيما بلغني عن عروة بن الزبير وغيره من العلماء قول الله تبارك وتعالى:{أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق ألا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}. أي إني إنما أحللت لهم القتال لأنهم ظلموا، ولم يكن لهم ذنب فيما بينهم وبين الناس وإنهم إذا ظهروا أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين (١)).
ولا يحتاج هذا الكلام إلى شرح، فلقد كانت بيعة العقبة الثانية فيصلا بين مرحلتين: بين مرحلة المواجهة بالكلمة، ومرحلة المواجهة بالسلاح، والمقارنة بين البيعتين توضح لنا الانتقال النوعي للحركة الإسلامية. ويعني الحركة الإسلامية من هذه السمة أن تلحظ الظروف التي تم الإذن فيها بالقتال لترسم على ضوئها ومن خلال ظروفها مرحلة المواجهة المسلحة مع العدو. إن قرار بدء الحرب الذي كان في مكة بأمر رباني هو اليوم تنفيذ لهذا الأمر حين تغدو الظروف شبيهة بتلك الظروف التي أذن فيها بالقتال، ومهمة قيادة الحركة أن تحسن تقدير هذه الظروف. والملاحظة التي لا بد من إيضاحها في هذا الصدد كذلك هي أن الإذن بالقتال شيء، ومباشرة القتال وطريقته شيء آخر.
وهنا لا بد لنا من معالجة فكرة دقيقة هي مثار اختلاف في وجهات النظر. هذه الفكرة هي كيف نوفق بين فرضية الجهاد والحكم النهائي فيه بعد آيات سورة براءة، وبين موضوع الإذن في القتال اليوم؟. فإذا كانت الأحكام النهائية للقتال في الإسلام هي أنه ماض إلى يوم القيامة - وهذا حق - فهل