يمنع أن نقف قليلا عند قول عمر رضي الله عنه، فالمعهود في الفاروق رضي الله عنه في كل مواقفه أمام الانحرافات وتشكيكات المنافقين، أنه يطلب الإذن بقتل هذا المشكك، ومضت عنه هذه الكلمة: يا رسول الله دعني أضرب عنقه فلقد نافق.
أما الآن فنحن أمام صورة جديدة. هذه الصورة أن عمر يطلب أن يقتله غيره، ولو أمعنا البحث وتعمقنا في فهم الأسباب لطالعتنا صورة نيرة خالدة. هذه الصورة هي ترفع عن أهوائه وانفعالاته. فلقد كانت المواجهة بين جهجاه الغفاري مولاه وبين سنان الجهني حليف الخزرج، فلو طلب عمر قتل ابن أبي، لكان الأمر محل شبهة أنه يود الثأر لنفسه ولمولاه من عبد الله بن أبي الخزرجي، وحرصا منه على أن لا يختلط الأمر بين حميته لدينه، وحميته لنفسه، ارتفع فوق رغبته الجامحة في قتل رأس النفاق، وأشار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم أحد سادات الخزرج بقتله، والنقطة الثانية في هذه الفقرة هي في قسم ابن أبي نفسه أنه ما قال هذا الكلام، فإقدامه على حلف هذه الأيمان - الكاذبة يعني أن رصيده قد انتهى نهائيا من الصف المسلم فلو كان واثقا أن هناك من يحميه ويؤيده غير هؤلاء العشرة. لبقي مصرا على قوله، ولاستطاع أن يحرك الحمية الجاهلية في نفوس قومه وهم أكثر الجيش، وأن يقود انشقاقا جديدا كما فعل في أحد.
إنه لواثق أنه أعجز من أن يؤثر على فرد واحد في هذه الظروف وبهذه الوقاحة السافرة. ومن أجل ذلك رأى أن مصيره الموت لو ثبتت إدانته، ولن يثأر له أحد فلا بد من تلافي الموقف من جديد وتكذيب الخبر حفاظا على عنقه من الإطاحة، وهو والعشرة معه لن يكونوا أكثر من نفخة في رماد.
غير أننا نلاحظ اتجاها آخر غير اتجاه عمر رضي الله عنه، ولقد قوي هذا الاتجاه حين رفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكرة قتله. قائلا: فكيف إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحاب.
هذا الاتجاه يقوم على التماس العذر لابن أبي في مقالته، ويعرض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكرة الرفق به أو تخفيف عقوبة القتل عنه على الأقل. ونلاحظ