للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الله عنهما بيد الكاتب فأمسكاها وقالا: لا تكتب إلا محمد رسول الله، وإلا فالسيف بيننا علام نعط الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله يخفضهم ويومىء إليهم بيده: اسكتوا وجعل حويطب يتعجب مما يصنعون، ويقول لمكرز: ما رأيت قوما أحوط لدينهم من هؤلاء فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا محمد بن عبد الله فاكتب ...).

(فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب، وانطلق سهيل وأصحابه قال:

قوموا فانحروا واحلقوا وحلوا فلم يجبه أحد إلى ذلك. فرددها ثلاث مرات فلم يفعلوا فدخل على أم سلمة رضي الله عنها وهو شديد الغضب. فاضطجع، فقالت: ما لك يا رسول الله؟ مرارا وهو لا يجيبها. ثم قال: عجبا يا أم سلمة! إني قلت للناس انحروا واحلقوا وحلوا مرارا فلم يجبني أحد من الناس إلى ذلك وهم يسمعون كلامي، وينظرون في وجهي. فقالت: يا رسول الله انطلق أنت إلى هديك فانحره فإنهم سيقتدون بك. فاضطبع بثوبه وخرج فأخذ الحربة ويمم هديه، وأهوى بالحربة إلى البدنة رافعا صوته بسم الله والله أكبر ونحر فتواثب المسلمون إلى الهدي، وازدحموا عليه ينحرونه، حتى كاد بعضهم يقع على بعض وأشرك - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه في الهدي .. فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحر البدن دخل قبة له من أدم حمراء فيها الحلاق فحلق رأسه ثم أخرج رأسه من قبته وهو يقول: رحم الله المحلقين. قيل يا رسول الله، والمقصرين! قال: رحم الله المحلقين! ثلاثا ثم قال: والمقصرين) (١).

هذا العرض المسهب يعطينا صورة بينة عن طبيعة هذا الصف العظيم بكل شعابه ومشاعره فنحن أمام وضع جديد كل الجدة، وقد انتقل من النقيض إلى النقيض. وبعد أن ارتفعت موجة المد الشعوري الحماسي إلى أقصاه بالبيعة على الموت، وبعد ذلك التزاحم والتلاحم، نجد الآن صورة معاكسة تتجه إلى المصالحة في شروط تبدو ظاهر الأمر مجحفة بحق المسلمين أيما إجحاف وأضخم هذه الشروط وأثقلها على أعصاب المسلمين هي أن يرجعوا هذا العام عن مكة خاصة وهم على أعتاب مكة وقلوبهم تتلظى شوقا للمسجد الحرام. وها نحن نرى عمر بن الخطاب يفقد أعصابه، ولم يجرؤ أحد على إبداء هذا الانفعال غير عمر بن الحطاب.

إن عمر رضي الله عنه الذي لم تحمل أعصابه في أول لحظة من لحظات إسلامه التخفي في دار الأرقم. واستأذن رسول الله بنفس الصيغة التي يتحدث بها اليوم (ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ ففيم التخفي إذن)؟ وها هو يقول الآن. فلم نعط الدنية في ديننا. وراح عمر يتنقل بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وأبي عبيدة رضي الله عنهم. والجواب يأتيه أن الوحي قد أمر بذلك.


(١) إمتاع الأسماع للمقريزي ج ١ مقتطفات من الصفحات ٢٩٢ حتى ٢٩٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>