مكة، حيث تظفر بحرية الدعوة وبحماية المعتنقين لها من الاضطهاد والفتنة ... وهذا في تقديري كان هو السبب الأهم والأول للهجرة.
ولقد سبق الاتجاه إلى يثرب، لتكون قاعدة الدولة الجديدة عدة اتجاهات سبقها الاتجاه إلى الحبشة، حيث هاجر إليها كثير من المؤمنين الأوائل، والقول بأنهم هاجروا إليها لمجرد النجاة بأنفسهم لا يستند الى قرائن قوية. فلو كان الأمر كذلك لهاجر إذن أقل الناس جاها وقوة ومنعة من المسلمين غير أن الأمر كان على الضد من هذا، فالموالي المستضعفون الذين كان ينصب عليهم معظم الاضطهاد والتعذيب والفتنة لم يهاجروا إنما هاجر رجال ذوو عصبيات لهم من عصبيتهم في بيئة قبلية، ما يعصمهم من الأذى، ويحميهم من الفتنة، وكان عدد القرشيين يؤلف غالبية المهاجرين منهم جعفر بن أبي طالب وأبوه وفتيان بني هاشم معه هم الذين كانوا يحمون النبي - صلى الله عليه وسلم - -ومنهم الزبير بن العوام- وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة المخزومي وعثمان بن عفان الأموي .. وغيرهم، وهاجرت نساء كذلك من أشرف بيوتات مكة ما كان الأذى لينالهن أبدا، وربما كان من وراء هذه الهجرة أسباب أخرى كإثارة هزة في أوساط البيوت الكبيرة من قريش وأبناؤها الكرام المكرمون يهاجرون بعقيدتهم، مرارا من الجاهلية تاركين وراءهم كل وشائج القربى، في بيئة قبلية
تهزها هذه الهجرة على هذا النحو هزا عنيفا وبخاصة حين يكون من بين المهاجرين مثل أم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم الجاهلية وأكبر المتصدين لحرب العقيدة الجديدة وصاحبها. ولكن مثل هذه الأسباب لا ينفي احتمال أن تكون الهجرة إلى الحبشة أحد الاتجاهات المتكررة في البحث عن قاعدة حرة، أو آمنة على الأقل للدعوة الجديدة، وبخاصة حين نضيف إلى هذا الاستنتاج ما ورد عن إسلام نجاشي الحبشة. ذلك الإسلام الذي لم يمنعه من إشهاره نهائيا إلا ثورة البطارقة عليه كما ورد في روايات صحيحة) (١).
ويؤيد ما ذهب إليه سيد رحمه الله إنه مجرد ظهور القاعدة الأمنة والعاصمة الجديدة غادر حوالي ثلث المهاجرين إلى المدينة وبقيت الأكثرية منهم هناك حفاظا على هذه القاعدة بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إلى أن زال الخطر، وأمن الناس، وقويت شوكة المسلمين بحيث أصبحت مستعصية على الإبادة كما يقول عليه الصلاة والسلام: الآن نغزوهم ولا يغزونا أمكن عندها استدعاء الجالية الإسلامية في الحبشة لتمارس دورها الفعال في الجهاد في العارك القادمة.
وحري بنا أن نقتفي أثر هذا الهدي النبوي، ونتعلم ونحن نواجه هذا المجتمع. أن نرعى هذا الجانب، ولا نضع البيض في سلة واحدة كما يقول المثل فينتهي الوجود الحركي والعياذ بالله.