أربعين يوما على ما تقوله روايات الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه. واستمرار هذا الحصار لثقيف التي لا تقل عزة ومنعة عن قريش. كان درسا جديدا لهذا الجيش كذلك، لأن نصر حنين يغري، فلم يكن بد لهم أن يتحملوا مسؤولية الحصار الطويل ويجربوا الالتزام والانضباط، هذا من جهة، ومن جهة ثانية لا بد أن يشعروا أن النصر ليس دائما حليف المسلمين، فلئن لم يتأخر نصر حنين ساعات. فنصر الطائف لم يتم إلا بعد شهور، ولأول مرة في تاريخ الجيش الإسلامي كذلك يتم انسحابه دون تحقيق هدفه، وعظم ذلك على القاعدة الصلبة المؤمنة. حين تلقوا أوامر الانسحاب. فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقتال في اليوم الثاني. فخرجوا مشمرين نشيطين. غير أن سكك الحديد المحماة، والسهام ومطر النبل عليهم، أدت إلى أن أثخنتهم الجراح. وحين جاء الأمر في اليوم الثاني فسروا له وبشوا به. وضحك القائد العظيم عليه الصلاة والسلام.
ولا بد أن تكون التجربة من القيادة حية حين ترى تلكؤا في تنفيذ أوامرها وتعالج هذه النفوس الصعبة من خلال التجربة الحية، حين تزداد قناعة الجنود بقيادتهم.
إن عملية بناء الجماعة ورص الصف هي من أشق العمليات. وقد تواجه القيادة أحيانا بخلل حتى في الصفوة المختارة، والقاعدة الصلبة، سواء في الجزع والهلع من المواقف أو بالصورة المعاكسة في التبرم من التريث والصبر. والأمر الذي لا يلامس شغاف القلب لا يمكن أن يثمر ثمرته. ولو أدى الحرص على الإقناع فيه الخسائر في الأموال والأرواح بقدر.
لكن كيف انتهت هذه الجيوب الوثنية الضخمة: هوزان وثقيف.
إذ أن هوازن قد أمعنت في الهرب وطوردت من المسلمين، لكنها لم تدخل حظيرة الإسلام، وثقيف تمنعت وتأبت، وانصرف المسلمون عنها وفكوا الحصار دون شروط.
بقي دور الجهاد السياسي، واستغلال كل الظروف لتفتيت الحقد النفسي. كي تفيء هذه النفوس إلى الإسلام.
يقول ابن إسحاق: ثم أن وفد هوازن بالجعرانة أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أسلموا فقال: يا رسول الله، إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك. قال: وقام رجل من هوازن، لم أحد بني سعد بن بكر يقال له زهير يكنى أبا صرد فقال: يا رسول الله إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا (١) للحارث بن أبي شمر، أو للنعمان بن المنذر ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين.