لا ينقص من عقيدة هذا الداعية ومن دينه شيئا. بل من حق شباب الدعوة في مرحلة الضعف البحث عن سند قوي في الجاهلية يحميهم ويحفظ عليهم حرية عقيدتهم، وحرية الدعوة إليها. ولقد كان لحماية أبي طالب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجارته له ما هيأ له السبل الكافية لنشر الدعوة في قلب مكة، دون أن يتعرض لأذى ماحق يقضي عليه. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما نالتا مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب (١)).
وهذا لا يعني أن الجاهلية قد وفت بعهذها وذمتها وحفظت جوار أبي طالب خلال هذه السنوات العشر، ولكن من المؤكد أنها أخفقت في محاولاتها خرق هذا العهد، وكان لحماية أبي طالب أثر فعال حال دون وصول الأذى الكبير لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
ولننتقل إلى صورة ثانية من الحماية. هي صورة إجارة ابن الدغنة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه (ففي الصحيح عن عائشة قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر يوم إلا يأتتينا فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفي النهار، بكرة وعشية. فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا إلى أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي.
فقال ابن الدغنة: إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار. ارجع واعبد ربك ببلدك. فرجع أبو بكر، وارتحل معه ابن الدغنة.
فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة وقالوا لابن الدغنة: فأمر أبا بكر، فليعبد ربه في داره، فليصل فيها، وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن، فإنا نخشى أن يفتن نساؤنا وأبناؤنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر. فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في