القوم سنا. فنفخوا له تربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم قالت: فدعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده، فوالله إنا لعلى ذلك متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير وهو يسعى، فلمع بثوبه وهو يقول: ألا أبشروا فقد ظفر النجاشي!. وأهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده، واستوسق عليه أمر الحبشة: وكنا عنده في خير منزل، حتى قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة) (١).
إنها وثيقة قدمتها لنا أم سلمة من أنفس الوثائق في فن مخاطبة الملوك، والحوار معهم ودحض شبه الأعداء وكشف مخططاتهم. وسنعالج من خلال هذه الوثيقة سمات عدة إضافة إلى السمة الأساسية فيها ألا وهي - ملاحقة تجمعات المسلمين من العدو، وإحباط هذه المخططات من المسلمين.
ولعل المشركين عندما ووجهوا بالنكسة الخطيرة التي حلت بهم من جراء إسلام عمر والحمزة رضي الله عنهما فكروا في ضرب هذا التجمع الإسلامي الضخم في الحبشة. وانطلاقا من معلومات السيرة النبوية يلاحظ أن التجمع الإسلامي في الحبشة عند إسلام عمر رضي الله عنه كان ضعف التجمع الإسلامي في مكة. فتذكر الروايات أن عدد المسلمين في مكة يوم أسلم عمر رضي الله عنه لم يكن يتجاوز الأربعين. بينما كان عددهم في الحبشة - كما تذكر الروايات - ثلاثة وثمانين رجلا وتسع عشرة امرأة. فمن الطبيعي إذن أن تخطط قيادة مكة للإطاحة بهذا التجمع الخطير في الحبشة، صحيح أنه بعيد عنها، ولكن نموه يشكل خطرا على مكة. في أي وقت تعود فيه هذه الجالية إلى مكة وتمارس نشاطها ودعوتها، خاصة إذا استطاعت هذه الجالية الكبيرة أن تدخل الأحباش في الإسلام، أو تقنع النجاشي بمهاجمة قريش. ولا تزال ذكرى عام الفيل وغزو الأحباش للكعبة عالقة في أذهانهم، ومن أجل هذا أحكمت الخطة من كل جانب لاسترجاع المسلمين من هناك، وكان وجود ثلاثة عناصر أساسية كافية لنجاح الخطة.