وَالْبَلُّورِ وَالْعَقِيقِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكْرَهُ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي التَّفَاخُرِ بِهِ. قُلْنَا: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ التَّفَاخُرُ بِغَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ.
قَالَ (وَيَجُوزُ الشُّرْبُ فِي الْإِنَاءِ الْمُفَضَّضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالرُّكُوبُ عَلَى السَّرْجِ الْمُفَضَّضِ وَالْجُلُوسُ عَلَى الْكُرْسِيِّ الْمُفَضَّضِ وَالسَّرِيرِ الْمُفَضَّضِ إذَا كَانَ يَتَّقِي مَوْضِعَ الْفِضَّةِ) وَمَعْنَاهُ: يَتَّقِي مَوْضِعَ الْفَمِ، وَقِيلَ هَذَا وَمَوْضِعُ الْيَدِ فِي الْأَخْذِ وَفِي السَّرِيرِ وَالسَّرْجِ مَوْضِعُ الْجُلُوسِ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ يُرْوَى مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَيُرْوَى مَعَ أَبِي يُوسُفَ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْإِنَاءُ الْمُضَبَّبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْكُرْسِيُّ الْمُضَبَّبُ بِهِمَا، وَكَذَا إذَا جَعَلَ ذَلِكَ فِي السَّيْفِ وَالْمِشْحَذِ وَحَلْقَةِ الْمَرْأَةِ، أَوْ جَعَلَ الْمُصْحَفَ مُذَهَّبًا أَوْ مُفَضَّضًا، وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي اللِّجَامِ وَالرِّكَابِ وَالثَّفْرِ إذَا كَانَ مُفَضَّضًا، وَكَذَا الثَّوْبُ فِيهِ كِتَابَةٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ عَلَى هَذَا، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا يَخْلُصُ، فَأَمَّا التَّمْوِيهُ الَّذِي
أَيْ لِأَنَّ الِادِّهَانَ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَنَحْوِهِ فِي مَعْنَى الشُّرْبِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ لَهَا، وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الِاسْتِعْمَالُ بِأَيْ وَجْهٍ كَانَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّجَبُّرِ وَالْإِسْرَافِ فَيَشْمَلُ الِادِّهَانَ وَالتَّطَيُّبَ أَيْضًا. وَفِي النِّهَايَةِ قِيلَ: صُورَةُ الِادِّهَانِ الْمُحَرَّمِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ آنِيَةَ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَيَصُبَّ الدُّهْنَ عَلَى الرَّأْسِ. أَمَّا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا وَأَخَذَ الدُّهْنَ، ثُمَّ صَبَّهُ عَلَى الرَّأْسِ مِنْ الْيَدِ لَا يُكْرَهُ. كَذَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الذَّخِيرَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ اهـ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ نَقْلِ ذَلِكَ: وَرَأَى أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُكْحُلَةِ فَإِنَّ الْكُحْلَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهَا حِينَ الِاكْتِحَالِ. وَمَعَ ذَلِكَ فَقَطْ ذَكَرَهُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ انْتَهَى.
أَقُولُ: يُمْكِنُ دَفْعُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّ الْمُحَرَّمَ فِي أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَآلَاتِهَا هُوَ اسْتِعْمَالُهَا، وَاسْتِعْمَالُ آنِيَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ عِنْدَ إرَادَةِ الِادِّهَانِ مِنْهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ بِأَخْذِ آنِيَتِهِمَا وَصَبِّ الدُّهْنِ مِنْهَا عَلَى الْبَدَنِ لَا بِإِدْخَالِ الْيَدِ فِيهَا وَأَخْذِ الدُّهْنِ، ثُمَّ صَبِّهِ عَلَى الْبَدَنِ. وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ مُكْحُلَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَادَةً بِإِدْخَالِ الْمِيلِ فِيهَا ثُمَّ الِاكْتِحَالُ بِهِ فَانْفِصَالُ الْكُحْلِ عَنْهَا حِينَ الِاكْتِحَالِ لَا يَقْدَحُ فِي تَحَقُّقِ اسْتِعْمَالِهَا فَافْتَرَقَا.
وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ التَّسْهِيلِ عَلَى مَا قِيلَ فِي صُورَةِ الِادِّهَانِ الْمُحَرَّمِ بِوَجْهٍ آخَرَ. وَهُوَ أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يُكْرَهَ إذَا أَخَذَ الطَّعَامَ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ بِمِلْعَقَةٍ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا، وَكَذَا إذَا أَخَذَهُ بِيَدِهِ وَأَكَلَهُ مِنْهَا. وَأَجَابَ عَنْهُ صَاحِبُ الدُّرَرِ وَالْغُرَرِ بِمَا يَقْرَبُ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي دَفْعِ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي الْمُكْحُلَةِ حَيْثُ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ الِاعْتِرَاضِ أَقُولُ: مَنْشَؤُهُ الْغَفْلَةُ عَنْ مَعْنَى عِبَارَةِ الْمَشَايِخِ وَعَدَمُ الْوُقُوفِ عَلَى مُرَادِهِمْ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ مِنْ فِي قَوْلِهِمْ مِنْ إنَاءِ ذَهَبٍ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّ الْأَدَوَاتِ الْمَصْنُوعَةَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ إنَّمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا إذَا اُسْتُعْمِلَتْ فِيمَا صُنِعَتْ لَهُ بِحَسَبِ مُتَعَارَفِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْأَوَانِيَ الْكَبِيرَةَ الْمَصْنُوعَةَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَجْلِ أَكْلِ الطَّعَامِ إنَّمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا إذَا أَكَلَ الطَّعَامَ مِنْهَا بِالْيَدِ أَوْ الْمِلْعَقَةِ؛ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِأَجْلِ ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ مِنْهَا بِالْيَدِ أَوْ الْمِلْعَقَةِ فِي الْعُرْفِ. وَأَمَّا إذَا أَخَذَ مِنْهَا وَوَضَعَ عَلَى مَوْضِعٍ مُبَاحٍ فَأَكَلَ مِنْهُ لَمْ يَحْرُمْ لِانْتِفَاءِ ابْتِدَاءِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْهَا، وَكَذَا الْأَوَانِي الصَّغِيرَةُ الْمَصْنُوعَةُ لِأَجْلِ الِادِّهَانِ وَنَحْوِهِ إنَّمَا يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهَا إذَا أُخِذَتْ وَصُبَّ مِنْهَا الدُّهْنُ عَلَى الرَّأْسِ أَوْ عَلَى الْيَدِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا صُنِعَتْ لِأَجْلِ الِادِّهَانِ مِنْهَا بِذَلِكَ الْوَجْهِ. وَأَمَّا إذَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا وَأَخَذَ الدُّهْنَ وَصَبَّهُ عَلَى الرَّأْسِ مِنْ الْيَدِ فَلَا يُكْرَهُ لِانْتِفَاءِ ابْتِدَاءِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْهَا، فَظَهَرَ أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الِاسْتِعْمَالِ الْمُتَعَارَفِ مِنْ ذَلِكَ الْمُحَرَّمِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. أَقُولُ: فِيهِ نَوْعُ اسْتِدْرَاكٍ بَلْ اخْتِلَالٍ، فَإِنَّ قَوْلَهُ مَنْشَؤُهُ الْغَفْلَةُ عَنْ مَعْنَى الْمَشَايِخِ ثُمَّ بَيَانُهُ إيَّاهُ بِقَوْلِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ " مِنْ " فِي قَوْلِهِمْ مِنْ إنَاءِ ذَهَبٍ ابْتِدَائِيَّةٌ أَمْرٌ زَائِدٌ بَلْ مُخْتَلٌّ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي عِبَارَةِ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِكَلِمَةِ فِي بِدَلَ كَلِمَةِ مِنْ، وَعَلَيْهِ عِبَارَةُ الْكِتَابِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَالْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ وَعَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ كَلِمَةُ مِنْ فِي كَلَامِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُتُونِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلِابْتِدَاءِ فِي تَمْشِيَةِ الْجَوَابِ الَّذِي ذَكَرَهُ هَاهُنَا، إذْ يَكْفِي فِيهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالِ الْمُتَعَارَفِ وَغَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الِاسْتِعْمَالُ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ فِي الِانْتِهَاءِ، يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِقِ وَالذَّوْقِ السَّلِيمِ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ، وَطَعَنَ فِي بَعْضِ عِبَارَاتِهِ قَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ صُوَرِ الِادِّهَانِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute