كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا عَبْدًا أَوْ حُرًّا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى دَفْعًا لِلْحَرَجِ. أَمَّا الدِّيَانَاتُ فَلَا يَكْثُرُ وُقُوعُهَا حَسَبِ وُقُوعِ الْمُعَامَلَاتِ فَجَازَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهَا زِيَادَةَ شَرْطٍ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهَا إلَّا قَوْلُ الْمُسْلِمِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مُتَّهَمٌ وَالْكَافِرَ لَا يَلْتَزِمُ الْحُكْمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُسْلِمَ، بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُمْكِنُهُ الْمَقَامُ فِي دِيَارِنَا إلَّا بِالْمُعَامَلَةِ. وَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ الْمُعَامَلَةُ إلَّا بَعْدَ قَبُولِ قَوْلِهِ فِيهَا فَكَانَ فِيهِ ضَرُورَةً، وَلَا يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْمَسْتُورِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ وَالْفَاسِقُ فِيهِ سَوَاءٌ حَتَّى يُعْتَبَرَ فِيهِمَا أَكْبَرُ الرَّأْيِ.
مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ التَّحَرِّي، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ التَّحَرِّي وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي كَلَامِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ. وَمُحَمَّدٌ ﵀ ذَكَرَ الْقَيْدَ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ تَفْسِيرًا لِهَذَا فَيُشْتَرَطُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ اسْتِحْسَانًا وَلَا يُشْتَرَطُ رُخْصَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ انْتَهَى.
أَقُولُ: يُشْكِلُ عَلَى التَّوْجِيهِ الْأَوَّلِ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعَامَلَاتِ وَالدِّيَانَاتِ لِأَنَّ قَوْلَ الْفَاسِقِ يُقْبَلُ فِي الدِّيَانَاتِ أَيْضًا بِشَرْطِ التَّحَرِّي كَمَا سَيَأْتِي التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الْكِتَابِ، وَكَذَا يَشْكُلُ ذَلِكَ عَلَى التَّوْجِيهِ الثَّالِثِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَهِيَ رِوَايَةُ الِاشْتِرَاطِ، فَالظَّاهِرُ الْمُنَاسِبُ عِنْدِي هُوَ التَّوْجِيهُ الثَّانِي.
فَإِنَّ الْفَرْقَ الْمَذْكُورَ يَسْتَقِيمُ حِينَئِذٍ، إذْ لَا رُخْصَةَ لِقَبُولِ قَوْلِ الْفَاسِقِ فِي الدِّيَانَاتِ بِدُونِ التَّحَرِّي (قَوْلُهُ وَلَا يُقْبَلُ فِيهَا قَوْلُ الْمَسْتُورِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ أَنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهَا جَرْيًا عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: وَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ الْخَبَرُ مُلْزِمًا، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فَبَقِيَ اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الشَّهَادَةِ أَنْ يَقْتَصِرَ الْحَاكِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ فِيمَا عَدَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ كَمَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، فَكَانَ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ دُونَ حَقِيقَتِهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَسْتُورَ ظَاهِرُ الْعَدَالَةِ لِقَوْلِهِ ﵊ «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» فَفِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ اعْتِبَارِ أَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ فَلَمْ يَدُلَّ مَا ذَكَرُوهُ عَلَى أَصَحِّيَّةِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ مَقْصُودُهُمْ بَيَانَ أَصَحِّيَّةِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الشَّهَادَةِ بَلْ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ فَسَادُ الزَّمَانِ مِنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِرِوَايَةِ الْمَسْتُورِ مَا لَمْ تَتَبَيَّنْ عَدَالَتُهُ، كَمَا لَمْ تُعْتَبَرْ شَهَادَتُهُ فِي الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا لَمْ يُظْهِرُ عَدَالَتَهُ. وَعَنْ هَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ: وَالْفَتْوَى عَلَى قَوْلِهِمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّوْجِيهَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ نَقْلًا عَنْ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ حَيْثُ قَالَ: قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ فِي أُصُولِهِ: وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدْلِ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ لِثُبُوتِ الْعَدَالَةِ ظَاهِرًا بِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وَعَنْ عُمَرَ ﵂ " الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ " وَلِهَذَا جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ الْقَضَاءَ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي الِاسْتِحْسَانِ أَصَحُّ فِي زَمَانِنَا، فَإِنَّ الْفِسْقَ غَالِبٌ فِي أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ فَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى رِوَايَةِ الْمَسْتُورِ مَا لَمْ تَتَبَيَّنْ عَدَالَتُهُ، كَمَا لَا تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُ فِي الْقَضَاءِ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ عَدَالَتُهُ انْتَهَى.
وَبِمَا ذَكَرْنَا تَبَيَّنَ اخْتِلَالُ تَحْرِيرِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَسْتُورِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: أَيْ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الدِّيَانَاتِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀. ثُمَّ قَالَ: وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ الْخَبَرُ مُلْزِمًا، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فَبَقِيَ اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ انْتَهَى. فَإِنَّهُ جَعَلَ مَا ذَكَرُوهُ وَجْهًا لِأَصَحِّيَّةِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَجْهًا لِنَفْسِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَطْعًا أَنَّ حَقِيقَةَ الْعَدَالَةِ لَيْسَتْ بِأَحَدِ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ يَكْفِي ظَاهِرُ الْعَدَالَةِ عِنْدَهُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ مُتَحَقِّقٌ فِي الْمَسْتُورِ فَمَا مَعْنَى اعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْعَدَالَةِ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ فِي الدِّيَانَاتِ فِي ظَاهِرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute