. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فِعْلُهُ أَوْلَى مِنْ تَرْكِهِ بِلَا مَنْعِ تَرْكِهِ، وَأَنَّ تَارِكَ الْوَاجِبِ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِالنَّارِ وَتَارِكَ السُّنَّةِ لَا يَسْتَحِقُّهَا بَلْ يَسْتَحِقُّ حِرْمَانَ الشَّفَاعَةِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْأَحْكَامِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِقَوْلِهِمْ إنَّهَا سُنَّةٌ فِي قُوَّةِ الْوَاجِبِ مُجَرَّدَ بَيَانِ تَأَكُّدِ سُنِّيَّتِهَا فَهُوَ لَا يُجْدِي نَفْعًا فِي دَفْعِ السُّؤَالِ. إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَحْذُورِ لِإِقَامَةِ الْوَاجِبِ تَحَمُّلُهُ لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ مُؤَكَّدَةً تَأَكُّدًا تَامًّا لِظُهُورِ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ وَالْأَحْكَامِ فَلَا يَتِمُّ الْقِيَاسُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ فَرْضٌ لَا وَاجِبٌ مَحْضٌ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ إجَابَةُ الدَّعْوَةِ فِي حُكْمِ الْوَاجِبِ بَلْ نَفْسُ الْوَاجِبِ لَا يَنْدَفِعُ السُّؤَالُ أَيْضًا، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَحَمُّلِ الْمَحْذُورِ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ تَحَمُّلُهُ لِإِقَامَةِ الْوَاجِبِ لِثُبُوتِ الْفَرْضِ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ دُونَ الْوَاجِبِ، وَلِهَذَا يَكْفُرُ جَاحِدُ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَلَا وَجْهَ لِلْقِيَاسِ. وَأَجَابَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَنْ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ وَجْهُ التَّشْبِيهِ اقْتِرَانُ الْعِبَادَةِ بِالْبِدْعَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ صِفَةِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ تَشْبِيهَ إجَابَةِ الدَّعْوَى بِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ فِي مُجَرَّدِ الِاقْتِرَانِ بِالْبِدْعَةِ مَعَ ظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا فِقْهِيًّا، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَاجِبَةَ الْإِقَامَةِ وَإِنْ حَضَرَتْهَا نِيَاحَةٌ كَلَامًا زَائِدًا خَارِجًا عَنْ صَنْعَةِ الْفِقْهِ وَحَاشَى لَهُ.
ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ بِوَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ وَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً عِنْدَنَا ابْتِدَاءً إلَّا أَنَّهَا تَنْقَلِبُ إلَى الْوَاجِبِ بَقَاءً: أَيْ بَعْدَ الْحُضُورِ إلَى مَحَلٍّ حَيْثُ يَلْزَمُهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ بِالْتِزَامِهِ إجَابَتَهَا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا بَعْدُ، فَيَصِيرُ هَذَا نَظِيرَ الصَّلَاةِ النَّافِلَةِ فَإِنَّهَا تَنْقَلِبُ إلَى الْوَاجِبِ بَلْ إلَى الْفَرْضِ بِالْتِزَامِ إقَامَتِهَا بِالشُّرُوعِ فِيهَا كَمَا تَقَرَّرَ فِي مَحَلِّهِ، وَلِذَلِكَ لَوْ عَلِمَ الْمَدْعُوُّ الْبِدْعَةَ قَبْلَ الْحُضُورِ لَزِمَهُ تَرْكُ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ كَمَا سَيَجِيءُ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَاجِبَةَ الْإِقَامَةِ وَإِنْ حَضَرَتْهَا نِيَاحَةٌ قِيَاسُ الْوَاجِبِ عَلَى الْوَاجِبِ فِي الْمَآلِ فَيَنْدَفِعُ الْإِشْكَالُ. ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ رَدَّ الدَّلِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ حَيْثُ قَالَ لَا؛ لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ فَلَا تُتْرَكُ بِسَبَبِ بِدْعَةٍ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ يَحْضُرُهَا النِّيَاحَةُ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ مُطْلَقَ الدَّعْوَةِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ إجَابَتَهَا سُنَّةٌ، وَإِنْ أَرَادَ الدَّعْوَةَ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ، بَلْ لِأَنَّ حَقَّ الدَّعْوَةِ يَلْزَمُهُ بَعْدَ الْحُضُورِ لَا قَبْلَهُ، إلَى هَاهُنَا كَلَامُهُ. وَقَصَدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْإِجَابَةِ الْمَسْنُونَةِ فِي قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ مَا يَعْلَمُ الْإِجَابَةَ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَالْإِجَابَةُ انْتِهَاءً فَقَطْ حَتَّى يَتِمَّ تَقْرِيبُ الدَّلِيلِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ فِي دَعْوَةٍ اقْتَرَنَتْ بِلَهْوٍ، وَفِيهَا لَا تُسَنُّ الْإِجَابَةُ ابْتِدَاءً كَمَا سَيَجِيءُ، فَإِذَا عَرَفَ الْمَدْعُوُّ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِجَابَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ أَصْلًا.
وَأَمَّا إذَا هَجَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَعْرِفْهُ كَمَا هُوَ الْمَفْرُوضُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فَوَجَدَ ثَمَّةَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجُلُوسُ وَالصَّبْرُ وَالْأَكْلُ، وَهَذَا إجَابَةُ انْتِهَاءٍ، فَبِهَذَا يَنْطَبِقُ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُدَّعِي فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا قِيلَ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ أَنَّ إجَابَةَ مُطْلَقِ الدَّعْوَةِ سُنَّةٌ فَلَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ لِمَا سَيَجِيءُ أَنَّ الدَّعْوَةَ إذَا قَارَنَتْ شَيْئًا مِنْ اللَّهْوِ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ كَذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ. وَوَجْهُ الِانْدِفَاعِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ حَقُّ الدَّعْوَةِ ابْتِدَاءً لَكِنْ يَلْزَمُهُ انْتِهَاءً إذَا هَجَمَ فَتَأَمَّلْ إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْبَعْضِ.
أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَى ذِي فَطَانَةٍ أَنَّ هَذَا كَلَامٌ خَالٍ عَنْ التَّحْصِيلِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً. أَمَّا خُلُوُّهُ عَنْ التَّحْصِيلِ ابْتِدَاءً فَلِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ انْتِهَاءً فَقَطْ، إذْ لَا يُتَصَوَّرُ تَحَقُّقُ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ انْتِهَاءً بِدُونِ تَحَقُّقِهَا ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَحَقُّقِ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ مِنْ الْمَدْعُوِّ ابْتِدَاءً إنَّمَا يُصَوَّرُ بِعَدَمِ مَجِيئِهِ إلَى مَحَلِّ الدَّعْوَةِ أَصْلًا لِأَجْلِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ، فَإِذَنْ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ إجَابَةُ تِلْكَ الدَّعْوَةِ انْتِهَاءً؟ وَإِجَابَتُهَا انْتِهَاءً فَرْعُ مَجِيئِهِ إلَى مَحَلِّ الدَّعْوَةِ أَوَّلًا وَلَيْسَ فَلَيْسَتْ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ عَكْسُ ذَلِكَ، وَهُوَ الْإِجَابَةُ ابْتِدَاءً فَقَطْ، كَمَا إذَا دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَأَجَابَ وَذَهَبَ إلَى مَحَلِّ الدَّعْوَةِ فَوَجَدَ ثَمَّةَ لَعِبًا أَوْ غِنَاءً فَلَمْ يَقْعُدْ وَلَمْ يَأْكُلْ فَإِنَّهُ يُوجَدُ هُنَاكَ الْإِجَابَةُ ابْتِدَاءً لَا انْتِهَاءً كَمَا لَا يَخْفَى، وَصُورَتُهَا الشَّرْعِيَّةُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمَدْعُوُّ مُقْتَدًى وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَنْعِهِمْ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ وَالْعَجَبُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَائِلَ ذَكَرَ الْإِجَابَةَ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَالْإِجَابَةَ انْتِهَاءً فَقَطْ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْإِجَابَةَ ابْتِدَاءً فَقَطْ، وَكَتَبَ تَحْتَ قَوْلِهِ وَالْإِجَابَةَ انْتِهَاءً فَقَطْ، أَمَّا عَكْسُهُ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ هَاهُنَا فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ اهـ.
فَزَعَمَ مَا هُوَ مُتَصَوَّرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute