قَالَ (وَلَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ التَّحَلِّي بِالذَّهَبِ) لِمَا رَوَيْنَا (وَلَا بِالْفِضَّةِ) لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهُ (إلَّا بِالْخَاتَمِ وَالْمِنْطَقَةِ وَحِلْيَةِ السَّيْفِ مِنْ الْفِضَّةِ) تَحْقِيقًا لِمَعْنَى النَّمُوذَجِ، وَالْفِضَّةُ أَغْنَتْ عَنْ الذَّهَبِ إذْ هُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، كَيْفَ
تَعَلَّقَ بَعْلَةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى آخِرِهِمَا، وَاللُّحْمَةُ آخِرُهُمَا انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَقَدْ يُقَالُ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَا يَكُونُ ثَوْبًا إلَّا بِهِمَا، وَالشَّيْءُ إذَا تَعَلَّقَ وُجُودُهُ بِشَيْئَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا.
أَقُولُ: لَا يَخْفَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَعْتَبِرْ فِي التَّعْلِيلِ كَوْنَ اللُّحْمَةِ آخِرَ جُزْءٍ مِنْ الثَّوْبِ وَلَمْ يَلْتَفِتْ فِيهِ إلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ: إذَا تَعَلَّقَ وُجُودُ شَيْءٍ بِشَيْئَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا وُجُودًا، فَيَكُونُ كُلٌّ مِمَّا مَا ذَكَرَ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا مُنْقَطِعًا عَلَى الْآخِرِ يُرْشِدُك إلَيْهِ قَوْلُ الزَّيْلَعِيِّ: لِأَنَّ الثَّوْبَ لَا يَصِيرُ ثَوْبًا إلَّا بِالنَّسْجِ وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ. أَوْ نَقُولُ: الثَّوْبُ لَا يَكُونُ ثَوْبًا إلَّا بِهِمَا فَتَكُونُ الْعِلَّةُ ذَاتَ وَجْهَيْنِ فَيُعْتَبَرُ آخِرُهُمَا وَهُوَ اللُّحْمَةُ انْتَهَى.
لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ النَّسْجَ يَكُونُ بِاللُّحْمَةِ وَهْمٌ بَلْ هُوَ بِاللُّحْمَةِ وَالسَّدَى مَعًا فَالتَّعْوِيلُ عَلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي، وَلِهَذَا عَدَلَ عَنْهُ صَاحِبُ الْكَافِي وَقَالَ: وَلِأَنَّهُ بِالنَّسْجِ يَصِيرُ ثَوْبًا وَهُوَ بِاللُّحْمَةِ وَالسَّدَى فَيُضَافُ كَوْنُهُ ثَوْبًا إلَى آخِرِ الْأَمْرَيْنِ وَهُوَ اللُّحْمَةُ، وَجُعِلَتْ حُكْمًا فِي الْإِبَاحَةِ. ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَبَيْنَ مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا خُفِيَ عَلَى بَعْضُ الشُّرَّاحِ حَيْثُ عَلَّلَ الْأَوَّلَ بِالثَّانِي، إلَى هُنَا لَفْظُ ذَلِكَ الْبَعْضِ. أَقُولُ: لَمْ يُصِبْ ذَلِكَ فِي رَأْيِهِ هَاهُنَا، بَلْ خَرَجَ عَنْ سُنَنِ السَّدَادِ، إذْ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَا يُفِيدُ الْمُدَّعِيَ بِدُونِ الْمَصِيرِ إلَى الْمُقَدِّمَةِ الْقَائِلَةِ إنَّ الْحُكْمَ إذَا تَعَلَّقَ بِشَيْئَيْنِ يُضَافُ إلَى آخِرِهِمَا؛ لِأَنَّ النَّسْجَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاللُّحْمَةِ وَالسَّدَى مَعًا لَا بِاللُّحْمَةِ وَحْدَهَا إذْ النَّسْجُ إنَّمَا هُوَ تَرْكِيبُ اللُّحْمَةِ بِالسَّدَى كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فَلَا يَثْبُتُ كَوْنُ الِاعْتِبَارِ بِاللُّحْمَةِ دُونَ السَّدَى إلَّا بِمُلَاحَظَةِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ الْمُدَّعِيَ بِدُونِ الْمَصِيرِ إلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ لَمْ يَبْقَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ هَذَا دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا وَتِلْكَ الْمُقَدَّمَةُ دَلِيلًا آخَرَ، فَلَا جَرَمَ نَبَّهَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ عَلَى كَوْنِ تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ مُعْتَبَرَةً فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِضَمِّهِمْ إيَّاهَا إلَيْهِ بِطَرِيقِ التَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ السَّدَى وَأَصَابُوا فِيمَا فَعَلُوا حَيْثُ حَمَلُوا الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْمَعْنَى الصَّحِيحِ التَّامِّ مَعَ تَحَمُّلِ كَلَامِهِ إيَّاهُ، فَإِنَّ عَدَمَ اعْتِبَارِهِ فِي التَّعْلِيلِ كَوْنَ اللُّحْمَةِ آخِرَ جُزْءٍ مِنْ الثَّوْبِ لَيْسَ اعْتِبَارًا لِعَدَمِهِ، وَعَدَمُ الْتِفَاتِهِ فِيهِ إلَى التَّصْرِيحِ بِتِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ اعْتِبَارِهَا فِيهِ وَاعْتِمَادًا عَلَى تَقَرُّرِهِ فِي كَلِمَاتِ الْمَشَايِخِ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ مَا يَمْنَعُهُ فَإِنَّهُ قَالَ: وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ بِدُونِ الْقَصْرِ عَلَيْهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَتَمَامُ النَّسْجِ أَوْ آخِرُ النَّسْجِ بِاللُّحْمَةِ.
وَالْعَجَبُ مِنْ ذَلِكَ الْبَعْضِ أَنَّهُ مَعَ اعْتِرَافِهِ بِبُطْلَانِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِدُونِ اعْتِبَارِ حَدِيثِ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى آخِرِ الْجُزْأَيْنِ حَيْثُ قَالَ: لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ النَّسْجَ يَكُونُ بِاللُّحْمَةِ وَهْمٌ، بَلْ هُوَ بِاللُّحْمَةِ وَالسَّدَى مَعًا جَعَلَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا بِدُونِ الْمَصِيرِ إلَى تِلْكَ الْمُقَدِّمَةِ فَاخْتَارَ بُطْلَانَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ حِينَئِذٍ، وَشَنَّعَ عَلَى الشُّرَّاحِ الْمُصْلِحِينَ كَلَامَهُ بِعَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ، وَمَا غَرَّهُ إلَّا عِبَارَةُ الزَّيْلَعِيِّ، وَلَمْ يَنْظُرْ أَوْ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ فُحُولِ الْمَشَايِخِ مِنْ جَعْلِ الْمَجْمُوعِ دَلِيلًا وَاحِدًا مِنْهُمْ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي تَقْرِيرِ الدَّلِيلِ الْمَذْكُورِ إنَّ الثَّوْبَ يَصِيرُ ثَوْبًا بِاللُّحْمَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ، وَالنَّسْجُ تَرْكِيبُ اللُّحْمَةِ بِالسَّدَى فَكَانَتْ اللُّحْمَةُ كَالْوَصْفِ الْأَخِيرِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ انْتَهَى.
وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْمُحِيطِ فَإِنَّهُ أَيْضًا قَالَ فِي تَقْرِيرِ ذَلِكَ: لِأَنَّ الثَّوْبَ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ، وَالنَّسْجُ إنَّمَا يَتَأَتَّى بِاللُّحْمَةِ آخِرُهُمَا فَيُضَافُ صَيْرُورَتُهُ ثَوْبًا عَلَى اللُّحْمَةِ، فَإِذَا كَانَتْ اللُّحْمَةُ مِنْ الْحَرِيرِ كَانَ الْكُلُّ حَرِيرًا حُكْمًا انْتَهَى.
وَمِنْهُمْ صَاحِبُ الْكَافِي فَإِنَّهُ أَيْضًا جَمَعَ كَمَا نَقَلَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ، ثُمَّ إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الزَّيْلَعِيِّ بِقَوْلِهِ أَوْ نَقُولُ إلَخْ تَقْرِيرُ ذَلِكَ الدَّلِيلِ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِقَيْدِ النَّسْجِ لَا ذِكْرُ دَلِيلٍ آخَرَ مُسْتَقِلٍّ مُغَايِرٍ لِلْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى وَالْمَآلِ، يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلِأَنَّ اللُّحْمَةَ هِيَ الَّتِي تَظْهَرُ فِي الْمَنْظَرِ فَتَكُونُ الْعِبْرَةُ بِمَا يَظْهَرُ دُونَ مَا يَخْفَى انْتَهَى حَيْثُ أَعَادَ حَرْفَ التَّعْلِيلِ وَهِيَ اللَّامُ فِي هَذَا الدَّلِيلِ إشَارَةً إلَى اسْتِقْلَالِهِ.
فَلَوْ كَانَ مُرَادُهُ بِمَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ أَوْ نَقُولُ إلَخْ إيرَادَ دَلِيلٍ آخَرَ مُسْتَقِلٍّ لَأَعَادَ اللَّامَ فِيهِ أَيْضًا تَبَصَّرْ
(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ التَّحَلِّيَ بِالذَّهَبِ لِمَا رَوَيْنَا وَلَا بِالْفِضَّةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَاهُ) أَقُولُ: لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ كَوْنَهُ