وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَخْلُوطِ قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ مَا سُدَاه حَرِيرٌ وَلُحْمَتُهُ غَيْرُ حَرِيرٍ كَالْقُطْنِ وَالْخَزِّ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ) لِأَنَّ الصَّحَابَةَ ﵃ كَانُوا يَلْبَسُونَ الْخَزَّ، وَالْخَزُّ مُسْدًى بِالْحَرِيرِ، وَلِأَنَّ الثَّوْبَ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ السَّدَى. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَكْرَهُ ثَوْبَ الْقَزِّ يَكُونُ بَيْنَ الْفَرْوِ وَالظِّهَارَةِ، وَلَا أَرَى بِحَشْوِ الْقَزِّ بَأْسًا؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ مَلْبُوسٌ وَالْحَشْوَ غَيْرُ مَلْبُوسٍ. قَالَ (وَمَا كَانَ لُحْمَتُهُ حَرِيرًا وَسَدَاهُ غَيْرَ حَرِيرٍ لَا بَأْسَ بِهِ فِي الْحَرْبِ)
لِلضَّرُورَةِ
(وَيُكْرَهُ فِي غَيْرِهِ) لِانْعِدَامِهَا، وَالِاعْتِبَارُ لِلُّحْمَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا.
كَانَ الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ الْإِيجَازِ الْمُخِلِّ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّ جَمِيعَ مُقَدِّمَاتِهِ مَجْرُوحٌ. أَمَّا قَوْلُهُ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ يُوهِمُ أَنَّ مَا لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَّاهُ غَيْرُ مُبَاحٍ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ أَيْضًا، فَلِأَنَّ ذَلِكَ الْإِيهَامَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ لَوْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ أَيْضًا وَلَيْسَ فَلَيْسَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَحَقَّ التَّعْبِيرُ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِإِبَاحَةِ الْأَدْنَى فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَعْلَى فَلِأَنَّ حَقَّ التَّعْبِيرِ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ. وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِبَاحَةُ الْأَعْلَى لِلتَّوْسِعَةِ بِهَا لَا لِلْحَاجَةِ إلَيْهَا فَلَا بُدَّ فِي دَفْعِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَوْ حَمَلْنَا الْمَعْنَى إلَى قَوْلِهِ كَانَ الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ الْإِيجَازِ الْمُخِلِّ فَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ قَبِيلِ الْإِيجَازِ الْمُخِلِّ أَنْ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ فَإِذَا أَمْكَنَ انْدِفَاعُهَا بِالْأَدْنَى مِنْهُ لَا يُصَارُ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَعْلَى مُقَدَّرًا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَضْمُونُ ذَلِكَ الْقَوْلِ مَفْهُومًا مِنْ الْمُقَدِّمَةِ السَّابِقَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ كَمَا هُوَ حَقِيقَةُ الْحَالِ فَلَا يُوجَدُ الْإِيجَازُ الْمُخِلُّ فِي الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ كَمَا لَا يَخْفَى؛ وَكَأَنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ لَمْ يُلَاحِظْ ارْتِبَاطَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ. أَعْنِي قَوْلَهُ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ بِالْمُقَدِّمَةِ السَّابِقَةِ عَلَيْهَا، وَهِيَ قَوْلُهُ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ شُرُوعٌ فِي الْجَوَابِ عَنْ دَلِيلِهِمَا الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً إلَخْ، وَقَدْ اعْتَرَفَ بِهِ ذَلِكَ الْبَعْضُ فِي شَرْحِهِ الْمُقَامِ. ثُمَّ لَا يَذْهَبُ عَلَى الْفَطِنِ أَنَّ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِمُقَدِّمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَوْلُهُ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ مِنْ تَمَامِ الْجَوَابِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَحْظُورَ الشَّرْعِيَّ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَالضَّرُورَةُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ قَدْ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ الَّذِي لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَّاهُ غَيْرُ ذَلِكَ، فَلَا مَجَالَ لِاسْتِبَاحَةِ الْخَالِصِ مِنْهُ، فَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ مُقَدِّمَةٌ فِي الْمَعْنَى إلَّا أَنَّهُ أَخَّرَهَا فِي الذِّكْرِ لِكَوْنِ مِسَاسِ الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى بِدَلِيلِهَا الْعَقْلِيِّ أَكْثَرَ، وَتَأْثِيرِهَا فِي الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ الدَّلِيلِ أَظْهَرَ، فَلَا غُبَارَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا أَصْلًا تَأَمَّلْ تَرْشُدْ.
(قَوْلُهُ وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَخْلُوطِ) أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَا رَوَاهُ تَرْخِيصُ النَّبِيِّ ﷺ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ وَالْحَمْلُ عَلَى الْمَخْلُوطِ إنْ صَحَّ فِي الْحَرِيرِ لَا يَصِحُّ فِي الدِّيبَاجِ؛ لِأَنَّ الدِّيبَاجَ فِي اللُّغَةِ وَالْعُرْفِ مَا كَانَ كُلُّهُ حَرِيرًا. قَالَ فِي الْمُغْرِبِ الدِّيبَاجُ الَّذِي سَدَّاهُ وَلُحْمَتُهُ إبْرَيْسَمُ. وَقَالَ الشُّرَّاحُ: جُمْلَةُ وُجُوهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ مَا يَكُونُ كُلُّهُ حَرِيرًا وَهُوَ الدِّيبَاجُ لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ بِالِاتِّفَاقِ، وَأَمَّا فِي الْحَرْبِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ. وَالثَّانِي مَا يَكُونُ سَدَّاهُ حَرِيرًا وَلُحْمَتُهُ غَيْرَهُ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهِ. وَالثَّالِثُ عَكْسُ الثَّانِي وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الْحَرْبِ دُونَ غَيْرِهِ، فَقَدْ صَرَّحُوا فِي كَلَامِهِمْ هَذَا بِأَنَّ الدِّيبَاجَ مَا كَانَ كُلُّهُ حَرِيرًا فَلَا مَجَالَ لِلْحَمْلِ عَلَى الْمَخْلُوطِ فِي حَقِّهِ.
(قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الثَّوْبَ إنَّمَا يَصِيرُ ثَوْبًا بِالنَّسْجِ وَالنَّسْجُ بِاللُّحْمَةِ فَكَانَتْ هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ دُونَ السَّدَى) قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ فِي تَعْلِيلِ هَذَا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute