للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَذَا الِاخْتِلَافُ فِي سِتْرِ الْحَرِيرِ وَتَعْلِيقِهِ عَلَى الْأَبْوَابِ. لَهُمَا الْعُمُومَاتُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْأَكَاسِرَةِ وَالْجَبَابِرَةِ وَالتَّشَبُّهُ بِهِمْ حَرَامٌ. وَقَالَ عُمَرُ : إيَّاكُمْ وَزِيَّ الْأَعَاجِمِ.

وَلَهُ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ جَلَسَ عَلَى مِرْفَقَةِ حَرِيرٍ»، وَقَدْ كَانَ عَلَى بِسَاطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ مِرْفَقَةُ حَرِيرٍ، وَلِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْمَلْبُوسِ مُبَاحٌ كَالْأَعْلَامِ فَكَذَا الْقَلِيلَ مِنْ اللُّبْسِ وَالِاسْتِعْمَالِ، وَالْجَامِعُ كَوْنُهُ نَمُوذَجًا عَلَى مَا عُرِفَ.

قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ عِنْدَهُمَا) لِمَا رَوَى الشَّعْبِيُّ «أَنَّهُ رَخَّصَ فِي لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ فِي الْحَرْبِ» وَلِأَنَّ فِيهِ ضَرُورَةً فَإِنَّ الْخَالِصَ مِنْهُ أَدْفَعُ لِمَعَرَّةِ السِّلَاحِ وَأَهْيَبُ فِي عَيْنِ الْعَدُوِّ لِبَرِيقِهِ (وَيُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)؛ لِأَنَّهُ لَا فَصْلَ فِيمَا رَوَيْنَاهُ، وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِالْمَخْلُوطِ وَهُوَ الَّذِي لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَّاهُ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ.

مُشْكِلٌ، فَإِنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ " حَلَالٌ لِإِنَاثِهِمْ " لَيْسَ بِمُقَيَّدٍ بِاللُّبْسِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُمُّ التَّوَسُّدَ وَالنَّوْمَ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَهُمَا مَعَ كَوْنِهِمَا مُسْتَدِلِّينَ عَلَى مُدَّعَاهُمَا هَاهُنَا بِالْعُمُومَاتِ كَيْفَ يَتْرُكَانِ الْعَمَلَ بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الَّذِي رَوَتْهُ جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ (قَوْلُهُ لَهُمَا الْعُمُومَاتُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ «نَهَى عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ» وَقَوْلِهِ «إنَّمَا يَلْبَسُهُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ» وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ اسْتَقْبَلَ جَيْشًا مِنْ الْغُزَاةِ رَجَعُوا بِغَنَائِمَ وَلَبِسُوا الْحَرِيرَ فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِمْ أَعْرَضَ عَنْهُمْ، فَقَالُوا: لِمَ أَعْرَضَتْ عَنَّا؟ قَالَ: لِأَنِّي رَأَيْت عَلَيْكُمْ ثِيَابَ أَهْلِ النَّارِ انْتَهَى.

وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي بَيَانِ الْمُرَادِ مِنْ الْعُمُومَاتِ بِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، أَقُولُ: حَمْلُ الْعُمُومَاتِ عَلَى هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لَا يَكَادُ يَتِمُّ؛ لِأَنَّ مَدْلُولَ كُلٍّ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ إنَّمَا هُوَ حُرْمَةُ لُبْسِ الْحَرِيرِ، وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي تَوَسُّدِهِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِلُبْسٍ، إلَّا أَنْ يُقَالَ لِمَنْ تَوَسَّدَ شَيْئًا أَوْ نَامَ عَلَيْهِ إنَّهُ لَبِسَهُ لَا فِي اللُّغَةِ وَلَا فِي الْعُرْفِ فَأَنَّى يُوجَدُ الْعُمُومُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: التَّوَسُّدُ وَالِافْتِرَاشُ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا لُبْسًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُمَا فِي حُكْمِ اللُّبْسِ فِي تَحَقُّقِ الِاسْتِعْمَالِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِمَا فَصَارَ مُلْحَقَيْنِ بِاللُّبْسِ عِنْدَهُمَا، وَكَانَ مُرَادُهُمَا بِالْعُمُومِ هُوَ الْعُمُومُ دَلَالَةً لَا عِبَارَةً لَكِنَّهُ تَعَسُّفٌ جِدًّا كَمَا لَا يَخْفَى. وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ فِي بَيَانِ الْعُمُومَاتِ. هِيَ " وَهَذَانِ حَرَامَانِ " الْحَدِيثَ، وَقَوْلُهُ «لَأَنْ أَتَّكِئَ عَلَى جَمْرَةِ الْغَضَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَّكِئَ عَلَى مِرْفَقَةِ حَرِيرٍ» وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ أَتَى بِدَابَّةٍ عَلَى سَرْجِهَا حَرِيرٌ فَقَالَ: هَذَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي هَذَا الْبَيَانِ. أَقُولُ: هَذَا أَشْبَهُ مِنْ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ فِيهِ أَيْضًا شَيْءٌ، فَإِنَّ الْعُمُومَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ حَيْثُ لَمْ يُقَيِّدْ الْحُرْمَةَ فِيهِ بِشَيْءٍ مِنْ اللُّبْسِ وَالتَّوَسُّدِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَمَّا فِي الْأَخِيرَيْنِ فَلَا، لِأَنَّ الثَّانِيَ مَخْصُوصٌ بِالِاتِّكَاءِ وَالثَّالِثَ مَخْصُوصٌ بِمَا يَفْعَلُ فِي السَّرْجِ مِنْ الْقُعُودِ وَالِافْتِرَاشِ فَلَمْ يَظْهَرْ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا الْعُمُومُ إلَّا أَنْ يَنْظُرَ فِي الثَّالِثِ إلَى مُجَرَّدِ قَوْلِهِ هَذَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَنَا فِي الْآخِرَةِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا قَبْلَهُ فَحِينَئِذٍ يَتَحَمَّلُ الْعُمُومَ كَمَا تَرَى

(قَوْلُهُ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: قَوْلُهُ وَالْمَحْظُورُ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ يُوهِمُ أَنَّهُ مَا لُحْمَتُهُ حَرِيرٌ وَسَدَّاهُ غَيْرُهُ مُبَاحٌ فِي غَيْرِ الْحَرْبِ أَيْضًا. فَحَقَّ التَّعْبِيرُ وَالضَّرُورَةُ انْدَفَعَتْ بِإِبَاحَةِ الْأَدْنَى فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَعْلَى، وَلَوْ حَمَلْنَا الْمَعْنَى عَلَى الْمَحْظُورِ لَا يُسْتَبَاحُ إلَّا لِضَرُورَةٍ فَإِذَا أَمْكَنَ انْدِفَاعُهَا بِالْأَدْنَى مِنْهُ لَا يُصَارُ إلَى اسْتِبَاحَةِ الْأَعْلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>