وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ الْآيَةَ، وَالْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَوَاضِعُ الزِّينَةِ وَهِيَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ السَّاعِدُ وَالْأُذُنُ وَالْعُنُقُ وَالْقَدَمُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ الزِّينَةِ، بِخِلَافِ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَالْفَخِذِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ، وَلِأَنَّ الْبَعْضَ يَدْخُلُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَاحْتِشَامٍ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا عَادَةً، فَلَوْ حَرُمَ النَّظَرُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ، وَكَذَا الرَّغْبَةُ
وَلَا يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ أَيْضًا أَنَّ الْمَحْرَمَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ وَكَذَا إلَى كُلِّ ذَاتِ مَحْرَمٍ بِرَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةٍ بِمَعْنَى الْحُرْمَةِ دُونَ الْحَرَامِ، إذْ لَا مَعْنَى لَأَنْ يُقَالَ: كُلُّ ذَاتِ حَرَامٍ: أَيْ صَاحِبَةِ حَرَامٍ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ هِيَ صَاحِبَةُ الْحُرْمَةِ نَفْسِهَا فَلَا مَعْنَى لِإِضَافَةِ الذَّاتِ إلَيْهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يُلَائِمُهُ تَفْسِيرُهُ بِمَا سَيَجِيءُ لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِمَا سَيَجِيءُ تَفْسِيرَ الْمَحْرَمِ الَّذِي هُوَ مُفْرَدُ الْمَحَارِمِ فِي قَوْلِهِ وَيَنْظُرُ الرَّجُلُ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ تَفْسِيرَ الْمَحْرَمِ بِمَعْنَى الْحَرَامِ الْمَأْخُوذِ مِنْ مَجْمُوعِ قَوْلِهِ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لَا مِنْ قَوْلِهِ مَحَارِمِهِ فَقَطْ فَلَا يَلْزَمُ عَدَمُ الْمُلَاءَمَةِ كَمَا لَا يَخْفَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ هُوَ الثَّانِي. وَيُعَضِّدُهُ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْمُحِيطِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ فَنَقُولُ: يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى مَوْضِعِ زِينَتِهَا الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ. ثُمَّ قَالَ: وَذَوَاتُ الْمَحَارِمِ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهُنَّ بِالنَّسَبِ نَحْوَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْجَدَّاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَبَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ، أَوْ بِالسَّبَبِ كَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ انْتَهَى.
فَإِنَّهُ فَسَّرَ ذَوَاتَ الْمَحَارِمِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الْمُصَنِّفُ الْمَحْرَمَ نَفْسَهُ. ثُمَّ إنَّ التَّحْقِيقَ فِي مَعْنَى التَّرْكِيبِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ ذَوَاتُ مَحَارِمِهِ أَنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهُنَّ بِالنَّسَبِ وَحْدَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحَارِمِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَحَارِمُ صِفَةَ الذَّوَاتِ وَتَكُونَ جَمْعَ مَحْرَمٍ بِمَعْنَى حَرَامٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ذَوَاتِ الْحُرُمَاتِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَحَارِمُ جَمْعَ مَحْرَمٍ بِمَعْنَى الْحُرْمَةِ. وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِهِ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهُنَّ بِنَسَبٍ أَوْ سَبَبٍ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ فَلَا مَجَالَ لِتَقْدِيرِ الرَّحِمِ لِكَوْنِهِ مُنَافِيًا لِلتَّعْمِيمِ بَلْ يَتَعَيَّنُ الْمَعْنَى الثَّانِي.
(قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ الْآيَةَ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَقَوْلُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ: أَيْ فِي جَوَازِ مَا جَازَ وَعَدَمِ جَوَازِ مَا لَمْ يَجُزْ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ الْآيَةَ، وَتَبِعَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ أَقُولُ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مَا جَازَ وَهُوَ النَّظَرُ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ. وَلَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ مَا لَمْ يَجُزْ. وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةٌ أُخْرَى وَهِيَ قَوْله تَعَالَى ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَلَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ مِنْهَا وَمَسُّهَا لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمَحَارِمِ النَّظَرَ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ الْآيَةَ، فَبَقِيَ غَضُّ الْبَصَرِ عَمَّا وَرَاءَهَا مَأْمُورًا بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ النَّظَرُ فَالْمَسُّ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى انْتَهَى، أَوْ آيَةُ الظِّهَارِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْمُحِيطِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى بَطْنِهَا وَلَا إلَى ظَهْرِهَا وَلَا إلَى جَنْبِهَا وَلَا يَمَسَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَالْوَجْهُ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الظِّهَارَ فِي كِتَابِهِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا. وَصُورَةُ الظِّهَارِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي، وَلَوْلَا أَنَّ ظَهْرَهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ نَظَرًا وَمَسًّا لَمَا سَمَّى الظِّهَارَ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الظَّهْرِ ثَبَتَ فِي الْبَطْنِ وَالْجَنْبَيْنِ انْتَهَى فَتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْبَعْضَ يَدْخُلُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَاحْتِشَامٍ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا عَادَةً، فَلَوْ حَرُمَ النَّظَرُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ) قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَتَقْرِيرُ هَذَا الدَّلِيلِ وَاضِحٌ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ يَدْخُلُ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ يُشْكِلُ بِمَا ذَكَرَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute