الْعَزْلِ عَنْ الْحُرَّةِ إلَّا بِإِذْنِهَا، وَقَالَ لِمَوْلَى أَمَةٍ: اعْزِلْ عَنْهَا إنْ شِئْت»، وَلِأَنَّ الْوَطْءَ حَقُّ الْحُرَّةِ قَضَاءً لِلشَّهْوَةِ وَتَحْصِيلًا لِلْوَلَدِ وَلِهَذَا تُخَيِّرُ فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ، وَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ فِي الْوَطْءِ فَلِهَذَا لَا يُنْقَصُ حَقُّ الْحُرَّةِ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمَوْلَى وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَمَةَ غَيْرِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ.
بِخِطَابِ الْإِنَاثِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ فَإِنَّ مُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ أَنْ لَا تَدْخُلَ الْإِمَاءُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ ﷿ ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ بِنَاءً عَلَى لُزُومِ التَّعَارُضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ مَعَ أَنَّ دُخُولَ الْإِمَاءِ فِيهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ اللَّازِمَ مِنْ كَوْنِ الذُّكُورِ مِنْ الْمَمَالِيكِ مُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ دُخُولُهُمْ فِي جَانِبِ الْغَاضِّينَ مِنْ أَبْصَارِهِمْ لَا فِي جَانِبِ مَنْ يَجِبُ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْهُ وَهُوَ الَّذِي مُنِعَ النَّظَرُ إلَيْهِ، فَإِنَّ كَلِمَةَ مِنْ فِي قَوْله تَعَالَى مِنْ أَبْصَارِهِمْ لِلتَّبْعِيضِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُفَسِّرُونَ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى يَغُضُّوا بَعْضًا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَهُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَكَانَتْ تِلْكَ الْآيَةُ مُجْمَلَةً فِي حَقِّ مَنْ مُنِعَ النَّظَرُ إلَيْهِ، فَلَوْ دَخَلَ الذُّكُورُ مِنْ الْمَمَالِيكِ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ لَمْ يَلْزَمْ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إحْدَى الْآيَتَيْنِ مُبَيِّنَةً لِمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مِنْ الْإِجْمَالِ، وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ حَسَنٌ مُقَرَّرٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِيهِ ذُكُورُ الْمَمَالِيكِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا، وَكَذَا نَظَائِرُهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى ﴿إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ﴾ إلَى آخِرِ الْآيَةِ كُلِّهَا مُبَيِّنَةً لِلْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ وَحَقَّقَ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَمَةُ غَيْرِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ) يَعْنِي قَوْلَهُ وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَالْإِذْنُ فِي الْعَزْلِ إلَى الْمَوْلَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِذْنَ إلَيْهَا. قَالَ فِي الْبَدَائِعِ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ لَهَا حَقًّا فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالْعَزْلُ يُوجِبُ النَّقْصَ فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ الْبَخْسُ بِحَقِّ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ فِي الْحُرَّةِ لِمَكَانِ خَوْفِ فَوْتِ الْوَلَدِ الَّذِي لَهَا فِيهِ حَقٌّ. وَالْحَقُّ هَاهُنَا فِي الْوَلَدِ لِلْمَوْلَى دُونَ الْأَمَةِ، وَقَوْلُهُمَا فِيهِ نُقْصَانُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ. قُلْنَا: نَعَمْ لَكِنَّ حَقَّهَا فِي أَصْلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا فِي وَصْفِ الْكَمَالِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ مِنْ الرِّجَالِ مَنْ لَا مَاءَ لَهُ وَهُوَ يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ وَلَا يَكُونُ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ حَقَّهَا فِي أَصْلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا فِي وَصْفِ الْكَمَالِ انْتَهَى. وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَيْثُ قَالَ: أَقُولُ: إنَّمَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ لِعَدَمِ صُنْعِ الزَّوْجِ فِيهِ، بِخِلَافِ الْعَزْلِ فَإِنَّهُ بِصُنْعِهِ وَلِهَذَا يَحْتَاجُ إلَى رِضَاهَا، فِي الْعَزْلِ لَا فِيهِ انْتَهَى.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ صُنْعِ الزَّوْجِ فِيهِ لَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّ حَقَّهَا لَا يَسْقُطُ بِمُجَرَّدِ عَدَمِ صُنْعِ الزَّوْجِ فِيمَا يُبْطِلُ حَقَّهَا؛ أَلَا يَرَى أَنَّ لِلزَّوْجَةِ حَقَّ الْخُصُومَةِ فِي الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ لَمْ يَكُونَا بِصُنْعِ الزَّوْجِ، فَتَعَيَّنَّ أَنَّ الْوَجْهَ فِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا حَقُّ الْخُصُومَةِ فِيمَنْ لَا مَاءَ لَهُ وَهُوَ يُجَامِعُهَا مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ كَوْنُ حَقِّهَا فِي أَصْلِ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا فِي وَصْفِ الْكَمَالِ، فَكَذَا فِي الْعَزْلِ تَدَبَّرْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute