إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا (وَإِنْ كَانَتْ لِلنَّاضِحِ فَحَرِيمُهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَهَذَا عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا) لَهُمَا قَوْلُهُ ﵊ «حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ. وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا» وَلِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى أَنْ يُسَيِّرَ دَابَّتَهُ لِلِاسْتِقَاءِ، وَقَدْ يَطُولُ الرِّشَاءُ وَبِئْرُ الْعَطَنِ لِلِاسْتِقَاءِ مِنْهُ بِيَدِهِ فَقَلَّتْ الْحَاجَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّفَاوُتِ. وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَالْعَامُّ الْمُتَّفَقُ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ
إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا) أَقُولُ: كَانَ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: فَيَتَحَوَّلُ الْمَاءُ بِالْفَاءِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ تَحَوُّلِ الْمَاءِ إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا إنَّمَا هُوَ رَخْوَةُ الْأَرَاضِيِ لَا غَيْرُ، إذْ لَوْ كَانَتْ فِيهَا صَلَابَةٌ لَمْ يَتَحَوَّلْ الْمَاءُ إلَى مَا حُفِرَ دُونَهَا قَطْعًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَدَاةِ التَّفْرِيعِ.
ثُمَّ أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ﵊ «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا» ظَاهِرٌ فِي كَوْنِ الْأَرْبَعِينَ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ، عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشْرَةُ أَذْرُعٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ التَّعْلِيلَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَكَيْفَ يَتِمُّ الِاسْتِدْلَال بِمَا ذَكَرَهُ عَلَى كَوْنِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحَرِيمِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْبِئْرِ، وَالضَّرَرُ لَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِعَشْرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَرْبَعُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لَزِمَهُ الْحَرَجُ وَهُوَ مَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ، فَكَانَ مَآلُ هَذَا التَّعْلِيلِ هُوَ الِاسْتِدْلَال بِالنَّصِّ الدَّالِّ عَلَى دَفْعِ الْحَرَجِ، وَقَدْ اكْتَفَى فِيهِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الضَّرَرِ الْمُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ، وَيُرْشِدُك إلَيْهِ تَقْرِيرُ صَاحِبِ الْكَافِي هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ لِكَيْ لَا يَحْفِرَ أَحَدٌ فِي حَرِيمِهِ بِئْرًا أُخْرَى فَيَتَحَوَّلَ إلَيْهَا مَاءُ بِئْرِهِ، وَهَذَا الضَّرَرُ لَا يَنْدَفِعُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَإِنَّ الْأَرَاضِيَ تَخْتَلِفُ صَلَابَةً وَرَخَاوَةً، فَرُبَّمَا يَحْفِرُ بِحَرِيمِهِ أَحَدٌ بِئْرًا أُخْرَى فَيَتَحَوَّلُ مَاءُ الْبِئْرِ الْأُولَى إلَيْهِ فَيَتَعَطَّلُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ بِئْرِهِ، وَفِي مِقْدَارِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يَنْدَفِعُ هَذَا الضَّرَرُ بِيَقِينٍ انْتَهَى فَتَدَبَّرْ (قَوْلُهُ وَلَهُ مَا رَوَيْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَالْعَامُّ الْمُتَّفَقُ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ) يُرِيدُ بِقَوْلِهِ مَا رَوَيْنَا قَوْلُهُ ﵊ «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا» وَبِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ: أَيْ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْعَطَنِ وَالنَّاضِحِ، وَيُرِيدُ بِالْعَامِّ الْمُتَّفَقَ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ قَوْلُهُ ﵊ «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا» وَبِقَوْلِهِ أَوْلَى عِنْدَهُ، أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀، وَيُرِيدُ بِالْخَاصِّ الْمُخْتَلَفَ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ وَهُوَ قَوْلُهُ «حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا» كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا.
أَقُولُ: هَذَا الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْقُوضٌ بِمَا إذَا كَانَتْ الْبِئْرُ عَيْنًا، فَإِنَّ حَرِيمَهَا خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ بِالْإِجْمَاعِ كَمَا سَيَأْتِي مَعَ أَنَّ مَا رَوَاهُ مِنْ قَوْلِهِ ﵊ «مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مِمَّا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا» لَا يُفَصِّلُ ذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنَّ كَوْنَ الْعَامِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ، وَالْعَمَلُ بِهِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَرِيمُهَا أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا عِنْدَهُ فَلْيُتَأَمَّلْ فِي الْفَرْقِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute