أَوْلَى عِنْدَهُ مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَفْرِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ بِهِ، فَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَانِ تَرَكْنَاهُ وَفِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ حَفِظْنَاهُ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَقَى مِنْ الْعَطَنِ بِالنَّاضِحِ وَمِنْ بِئْرِ النَّاضِحِ بِالْيَدِ فَاسْتَوَتْ الْحَاجَةُ فِيهِمَا، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُدْبِرَ الْبَعِيرَ حَوْلَ الْبِئْرِ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ مَسَافَةٍ: قَالَ (وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا فَحَرِيمُهَا خَمْسمِائَةِ ذِرَاعٍ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ مَسَافَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ تُسْتَخْرَجُ لِلزِّرَاعَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَوْضِعٍ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ وَمِنْ حَوْضٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ.
وَمِنْ مَوْضِعٍ يُجْرَى فِيهِ إلَى الْمَزْرَعَةِ فَلِهَذَا يُقَدَّرُ بِالزِّيَادَةِ، وَالتَّقْدِيرُ بِخَمْسِمِائَةٍ بِالتَّوْقِيفِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْعَطَنِ، وَالذِّرَاعُ هِيَ الْمُكَسَّرَةُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.
قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مَوْضِعِ الْحَفْرِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِهِ فَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْحَدِيثَانِ تَرَكْنَاهُ، وَفِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ حَفِظْنَاهُ) يَعْنِي أَنَّ الْحَدِيثَيْنِ اتَّفَقَا فِي الْأَرْبَعِينَ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي هَذَا الْقَدْرِ، وَفِيمَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ تَعَارَضَا، لِأَنَّ الْعَامَّ يَنْفِيهِ، وَالْخَاصَّ يُثْبِتُهُ فَتَسَاقَطَا فَعَمِلْنَا بِالْقِيَاسِ، كَذَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ وَغَيْرِهِ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ لِأَنَّ الْمُتَعَارِضَيْنِ مِنْ الدَّلِيلَيْنِ إنَّمَا يَتَسَاقَطَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا رُجْحَانٌ عَلَى الْآخَرِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا رُجْحَانٌ عَلَى الْآخَرِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ وَتَرْكُ الْآخَرِ، وَالْأَمْرُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ إنَّمَا يَنْفِي مَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَنَا، وَإِنْ سُلِّمَ أَنَّهُ يَنْفِي ذَلِكَ بِمَنْطُوقِهِ فَإِنَّمَا يَنْفِيهِ بِطَرِيقِ الْإِشَارَةِ، وَالْخَاصُّ يُثْبِتُهُ بِطَرِيقِ الْعِبَارَةِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ تُرَجَّحُ عَلَى إشَارَتِهِ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَلَزِمَ أَنْ لَا يَسْقُطَ الْخَاصُّ بَلْ وَجَبَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ، وَيُتْرَكَ الْقِيَاسُ لِظُهُورِ أَنْ يُتْرَكَ الْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ. قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَتَعَارَضَانِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْقَبُولَ فِي أَحَدِهِمَا وَالِاخْتِلَافَ فِي الْآخَرِ؟ قُلْت: يَعْنِي بِهِ صُورَةَ الْمُعَارَضَةِ، كَمَا يُقَالُ إذَا تَعَارَضَ الْمَشْهُورُ مَعَ خَبَرِ الْوَاحِدِ تَرَجَّحَ الْمَشْهُورُ وَعَدَمُ التَّعَارُضِ مَعْلُومٌ انْتَهَى.
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَالشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ. أَقُولُ: الْجَوَابُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، إذْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِتَعَارُضِهِمَا هَاهُنَا صُورَةَ التَّعَارُضِ الَّتِي لَا تُنَافِي رُجْحَانَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ لَمَا تَمَّ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَفِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ حَفِظْنَاهُ. وَلَمَّا صَحَّ قَوْلُهُمْ فِي شَرْحِ ذَلِكَ وَفِيمَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ تَعَارَضَا فَتَسَاقَطَا فَعَمِلْنَا بِالْقِيَاسِ، إذْ التَّسَاقُطُ وَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِيقَةِ التَّعَارُضِ بِأَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْقُوَّةِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمُخَلِّصُ. وَأَمَّا فِي صُورَةِ التَّعَارُضِ مَعَ رُجْحَانِ أَحَدِهَا عَلَى الْآخَرِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالرَّاجِحِ وَتَرْكُ الْآخَرِ وَالْقِيَاسِ، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ. ثُمَّ أَقُولُ: الظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: مَدَارُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى التَّنْزِيلِ عَمَّا ذُكِرَ فِي الدَّلِيلِ السَّابِقِ مِنْ كَوْنِ الْعَامِّ الْمُتَّفَقِ عَلَى قَبُولِهِ أَوْلَى مِنْ الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ: يَعْنِي لَوْ سُلِّمَ عَدَمُ رُجْحَانِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَتَسَاقُطُهُمَا فِيمَا تَعَارَضَا فِيهِ، وَهُوَ مَا وَرَاءَ الْأَرْبَعِينَ حَفِظْنَا الْقِيَاسَ فِيهِ وَهُوَ يَكْفِينَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ تَأَمَّلْ تُرْشَدْ.
(قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَقِي مِنْ بِئْرِ الْعَطَنِ بِالنَّاضِحِ وَمِنْ بِئْرِ النَّاضِحِ بِالْيَدِ فَاسْتَوَتْ الْحَاجَةُ فِيهِمَا)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute