للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

سُمِّيَ بِهَا وَهِيَ جَمْعُ شَرَابٍ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا

قَالَ (الْأَشْرِبَةُ الْمُحَرَّمَةُ أَرْبَعَةٌ: الْخَمْرُ وَهِيَ عَصِيرُ الْعِنَبِ إذَا غَلَى وَاشْتَدَّ وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ، وَالْعَصِيرُ إذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثَيْهِ) وَهُوَ الطِّلَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (وَنَقِيعُ التَّمْرِ وَهُوَ السَّكَرُ، وَنَقِيعُ الزَّبِيبِ إذَا اشْتَدَّ وَغَلَى)

أَمَّا الْخَمْرُ فَالْكَلَامُ فِيهَا فِي عَشَرَةِ مَوَاضِعَ:

بِعِرْقٍ وَاحِدٍ لَفْظًا وَمَعْنًى فَقَالَ: الْعِرْقُ اللَّفْظِيُّ ظَاهِرٌ وَهُوَ الشُّرْبُ مَصْدَرُ شَرِبَ، وَالْعِرْقُ الْمَعْنَوِيُّ لَعَلَّهُ الْأَرْضُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَخْرُجُ مِنْهُ إمَّا بِالْوَاسِطَةِ أَوْ بِدُونِهَا انْتَهَى. أَقُولُ: حُمِلَ مُرَادُهُمْ بِالْعِرْقِ الْمَعْنَوِيِّ هَاهُنَا عَلَى الْأَرْضِ بِنَاءً عَلَى خُرُوجِ الشُّرْبِ مِنْهَا بِالذَّاتِ، وَخُرُوجُ الْأَشْرِبَةِ مِنْهَا بِالْوَاسِطَةِ تَعَسُّفٌ جِدًّا لَا تَقْبَلُهُ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ.

وَالصَّوَابُ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْعِرْقِ الْمَعْنَوِيِّ هَاهُنَا هُوَ مَعْنَى لَفْظِ الشُّرْبِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ شَرِبَ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُشْتَقٌّ مِنْ ذَلِكَ الْمَصْدَرِ، وَلَا بُدَّ فِي الِاشْتِقَاقِ مِنْ التَّنَاسُبِ بَيْنَ الْمُشْتَقِّ وَالْمُشْتَقِّ مِنْهُ فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى؛ وَهَاهُنَا أَيْضًا كَذَلِكَ، وَهَذَا مَعْنَى كَوْنِهِمَا شُعْبَتَيْ عِرْقٍ وَاحِدٍ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ مَا ذُكِرَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: ذَكَرَ كِتَابَ الْأَشْرِبَةِ بَعْدَ الشُّرْبِ لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ اشْتِرَاكُ اللَّفْظَيْنِ فِي الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَالْحُرُوفِ وَالْأُصُولِ اهـ. ثُمَّ إنَّ مِنْ مَحَاسِنِ ذِكْرِ الْأَشْرِبَةِ بَيَانَ حُرْمَتِهَا؛ إذْ لَا شُبْهَةَ فِي حُسْنِ تَحْرِيمِ مَا يُزِيلُ الْعَقْلَ الَّذِي هُوَ مَلَاكُ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُكْرِ إنْعَامِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا بَالُهُ حَلَّ لِلْأُمَمِ السَّابِقَةِ مَعَ احْتِيَاجِهِمْ أَيْضًا إلَى الْعَقْلِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، وَحُرِّمَ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْ الْخَمْرِ عَلَيْنَا كَرَامَةً لَنَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِئَلَّا نَقَعَ فِي الْمَحْظُورِ بِأَنْ يَدْعُوَ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْهَا إلَى شُرْبِ الْكَثِيرِ وَنَحْنُ مَشْهُودٌ لَنَا بِالْخَيْرِيَّةِ.

فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا حُرِّمَتْ عَلَيْنَا ابْتِدَاءً، وَالدَّاعِي الْمَذْكُورُ مَوْجُودٌ؟ أُجِيبَ إمَّا بِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْخَيْرِيَّةِ لَمْ تَكُنْ إذْ ذَاكَ، وَإِمَّا لِتَدْرِيجِ الضَّارِي لِئَلَّا يَنْفِرَ مِنْ الْإِسْلَامِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ.

أَقُولُ: فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ الْجَوَابِ الثَّانِي نَظَرٌ. أَمَّا فِي وَجْهِهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْخَيْرِيَّةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، إلَّا أَنَّ نَفْسَ خَيْرِيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَانَتْ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَهِيَ كَافِيَةٌ فِي الْكَرَامَةِ فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.

وَأَمَّا فِي وَجْهِهِ الثَّانِي فَلِأَنَّ نُفْرَةَ الضَّارِي بِالْخَمْرِ: أَيْ الْمُعْتَادِ بِهَا مِنْ الْإِسْلَامِ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ يُوجَدُ بِتَحْرِيمِهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ، فَإِنَّهَا إذَا لَمْ تُحَرَّمْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ كَانَ الضَّارِي بِهَا عَلَى حَالِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا، فَإِذَا حَرَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَنْفِرَ عَنْهُ عَلَى مُقْتَضَى صُعُوبَةِ تَرْكِ الْمُعْتَادِ، وَأَيْضًا احْتِمَالُ كَوْنِ الِاعْتِيَادِ بِخَبِيثٍ بَاعِثًا عَلَى التَّنْفِيرِ عَنْ الْإِسْلَامِ عِنْدَ النَّهْيِ عَنْ تَعَاطِي ذَلِكَ الْخَبِيثِ مُتَحَقِّقٌ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ فِي مُقَابَلَةِ ظُهُورِ شَرَفِ الْإِسْلَامِ فَهَاهُنَا أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، فَالْوَجْهُ الْوَجِيهُ فِي الْجَوَابِ عَنْ السُّؤَالِ الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ حَيْثُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: هَلَّا حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ؟ قُلْنَا: أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لِيُعَايَنَ الْفَسَادُ فِي الْخَمْرِ، حَتَّى إذَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ عَرَفُوا مِنَّة الْحَقَّ لَدَيْهِمْ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ انْتَهَى (قَوْلُهُ سُمِّيَ بِهَا وَهِيَ جَمْعُ شَرَابٍ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا) يَعْنِي سُمِّيَ

<<  <  ج: ص:  >  >>