للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَائِيَّتِهَا وَهِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا وَهَذَا عِنْدَنَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ

وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: هُوَ اسْمٌ لِكُلِّ مُسْكِرٍ لِقَوْلِهِ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ»: وَقَوْلُهُ «الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ» وَأَشَارَ إلَى الْكَرْمَةِ وَالنَّخْلَةِ، وَلِأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مُسْكِرٍ

وَلَنَا أَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ بِإِطْبَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ وَلِهَذَا اُشْتُهِرَ اسْتِعْمَالُهُ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ غَيْرُهُ،

هَذَا الْكِتَابُ بِالْأَشْرِبَةِ: أَيْ أُضِيفَ إلَيْهَا، وَالْحَالُ أَنَّ الْأَشْرِبَةَ جَمْعُ شَرَابٍ، وَهُوَ اسْمٌ فِي اللُّغَةِ لِكُلِّ مَا يُشْرَبُ مِنْ الْمَائِعَاتِ سَوَاءٌ كَانَ حَرَامًا أَوْ حَلَالًا، وَفِي اسْتِعْمَالِ أَهْلِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا هُوَ حَرَامٌ مِنْهُ وَكَانَ مُسْكِرًا لِمَا فِيهِ: أَيْ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا: أَيْ حُكْمِ الْأَشْرِبَةِ كَمَا سُمِّيَ كِتَابَ الْحُدُودِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْحُدُودِ، وَكَمَا سُمِّيَ كِتَابُ الْبُيُوعِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْبُيُوعِ، هَذَا زُبْدَةُ مَا ذُكِرَ هَا هُنَا فِي جُمْلَةِ الشُّرُوحِ وَالْكَافِي مَعَ نَوْعِ زِيَادَةٍ فِي حَلِّ الْأَلْفَاظِ.

قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا: أَيْ بَيَانِ حُكْمِ أَنْوَاعِهَا، وَقَالَ: وَلَعَلَّ ذَلِكَ تَمْهِيدُ الْعُذْرِ لِعِنْوَانِهِ الْكِتَابَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ: يَعْنِي إنَّمَا عَنْوَنَ بِهَا؛ لِأَنَّ فِيهِ بَيَانَ أَحْكَامِ أَنْوَاعِهَا كَمَا فِي الْبُيُوعِ، أَوْ لِإِضَافَةِ الْكِتَابِ إلَى الْأَعْيَانِ، وَالْفِقْهُ يَبْحَثُ عَنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، فَوَجْهُهُ حِينَئِذٍ أَنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ الْحُرْمَةُ هَا هُنَا وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ لَا لِلْأَفْعَالِ فَلِذَلِكَ عَنْوَنَ بِالْأَعْيَانِ وَيُعْلَمُ مِنْهُ حَالُ الْأَفْعَالِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ خُصُوصًا التَّلْوِيحَ فِي أَوَائِلِ الْقِسْمِ الثَّانِي، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.

أَقُولُ: لَيْسَ لِتَوْجِيهِهِ الَّذِي ذَكَرَهُ لِإِضَافَةِ الْكِتَابِ إلَى الْأَعْيَانِ مَعْنًى مُحَصَّلٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ الْحُرْمَةُ هَا هُنَا وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ حَقِيقَةً لَا لِلْأَفْعَالِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ سِيَّمَا فِي التَّلْوِيحِ فِي أَوَائِلِ الْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّ إضَافَةَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ إلَى الْأَعْيَانِ كَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ وَالْأُمَّهَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مَجَازٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ بَابِ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَحَلِّ عَلَى الْحَالِّ، أَوْ هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ: أَيْ حَرُمَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَنِكَاحُ الْأُمَّهَاتِ لِدَلَالَةِ الْعَقْلِ عَلَى الْحَذْفِ، وَالْمَقْصُودُ الْأَظْهَرُ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ، وَأَمَّا عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ إضَافَةُ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ إلَى الْأَعْيَانِ حَقِيقَةً لِوَجْهَيْنِ مُفَصَّلَيْنِ فِي مَحَلِّهِ، إلَّا أَنَّ كَوْنَ إضَافَتِهِمَا إلَى الْأَفْعَالِ حَقِيقَةً مِمَّا لَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ قَطُّ، بَلْ مَنْ يَقُولُ بِكَوْنِ إضَافَتِهِمَا إلَى الْأَعْيَانِ حَقِيقَةً إنَّمَا يَقِيسُ إضَافَتَهُمَا إلَى الْأَعْيَانِ عَلَى إضَافَتِهِمَا إلَى الْأَفْعَالِ فِي كَوْنِهَا حَقِيقَةً، وَيَسْتَمِدُّ بِذَلِكَ فِي تَوْجِيهِ مَذْهَبِهِ، فَلَا مَجَالَ لِلْقَوْلِ بِأَنَّ الْحُرْمَةَ وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ حَقِيقَةً لَا لِلْأَفْعَالِ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ.

وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْحُرْمَةَ هَا هُنَا وَصْفٌ لِلْأَعْيَانِ مَجَازًا لَا لِلْأَفْعَالِ لَا يَتِمُّ قَوْلُهُ فَلِذَلِكَ عَنْوَنَ بِالْأَعْيَانِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْحُرْمَةِ وَصْفًا لِلْأَعْيَانِ مَجَازًا لَا يَقْتَضِي أَنْ يُعَنْوِنَ الْكِتَابَ بِالْأَعْيَانِ، بَلْ رِعَايَةُ جَانِبِ الْحَقِيقَةِ فِي الْعِنْوَانِ أَوْلَى وَأَحْسَنُ بِلَا رَيْبٍ، فَكَانَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَنْوَنَ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يُقَالَ كِتَابُ شُرْبِ الْأَشْرِبَةِ حَتَّى يُرَاعَى كَوْنُ الْفِقْهِ بَاحِثًا عَنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ بِلَا كُلْفَةٍ أَنْ يُقَالَ وَيُعْلَمَ مِنْهُ حَالُ الْأَفْعَالِ.

وَبِالْجُمْلَةِ تَوْجِيهُهُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ بِتَامٍّ عَلَى كُلِّ حَالٍ

(قَوْلُهُ أَحَدُهَا فِي بَيَانِ مَاهِيَّتِهَا) وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَائِيَّتِهَا بَدَلَ مَاهِيَّتِهَا.

قَالَ فِي غَايَةِ الْبَيَانِ: الْمَائِيَّةُ بِمَعْنَى الْمَاهِيَّةِ، وَهِيَ مَا بِهِ الشَّيْءُ هُوَ كَمَاهِيَّةِ الْإِنْسَانِ وَهِيَ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ انْتَهَى.

قُلْت: وَفِي نُسْخَةٍ مَائِيَّتِهَا هَا هُنَا إيهَامٌ لَطِيفٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ وَهِيَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ تَبَصَّرْ تَقِفْ

(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ بِإِطْبَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ) أَقُولُ لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ إطْبَاقَ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ خَاصٌّ لِلنِّيءِ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ إذَا صَارَ مُسْكِرًا؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي قَامُوسِ اللُّغَةِ: الْخَمْرُ مَا أَسْكَرَ مِنْ عَصِيرِ الْعِنَبِ أَوْ عَامٍّ.

وَقَالَ: وَالْعُمُومُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهَا حُرِّمَتْ وَمَا بِالْمَدِينَةِ خَمْرُ عِنَبٍ.

وَمَا كَانَ شَرَابُهُمْ إلَّا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ انْتَهَى

وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْخَمْرَ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ يَعُمُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>