وَيُرْوَى «بِعَيْنِهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» خَصَّ السُّكْرَ بِالتَّحْرِيمِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ؛ إذْ الْعَطْفُ لِلْمُغَايَرَةِ، وَلِأَنَّ الْمُفْسِدَ هُوَ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا
وَيُرْوَى «بِعَيْنِهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَلَهُمَا أَيْضًا قَوْله تَعَالَى ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ﴾ الْآيَةَ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْحِكْمَةَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَهِيَ الصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِيرَاثُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي لَا تَحْصُلُ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ، وَلَوْ خُلِّينَا وَظَاهِرَ الْآيَةِ لَقُلْنَا لَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْ الْخَمْرِ أَيْضًا، وَلَكِنْ تَرَكْنَا قَضِيَّةَ ظَاهِرِ الْآيَةِ فِي قَلِيلِ الْخَمْرِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا إجْمَاعَ فِيمَا عَدَاهُ فَبَقِيَ عَلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ انْتَهَى
أَقُولُ: يَنْتَقِضُ هَذَا الِاسْتِدْلَال بِمَا عَدَا الْخَمْرَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّ قَلِيلَهَا أَيْضًا حَرَامٌ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا قَاطِبَةً وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، مَعَ أَنَّ الْمَعَانِيَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْآيَةِ الْمَزْبُورَةِ لَا تَحْصُلُ بِشُرْبِ قَلِيلِهَا كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ خَصَّ السَّكَرَ بِالتَّحْرِيمِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ إذْ الْعَطْفُ لِلْمُغَايِرَةِ) أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِقَوْلِهِ خَصَّ السَّكَرَ بِالتَّحْرِيمِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ قَصْرُ التَّحْرِيمِ عَلَى السَّكَرِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ دَاخِلَةً عَلَى الْمَقْصُورِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ خَصَصْت فُلَانًا بِالذِّكْرِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي مَوْضِعِهِ؛ إذْ هُوَ الْمُفِيدُ لِمُدَّعَاهُمَا هَا هُنَا دُونَ الْعَكْسِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مَسْكَةٍ، لَكِنْ فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى مُدَّعَاهُمَا فِي هَذَا الْوَجْهِ كَمَا يَقْتَضِي حِلَّ الْمُثَلَّثِ يَقْتَضِي أَيْضًا حِلَّ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ الثَّلَاثَةِ غَيْرِ الْخَمْرِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لُزُومًا وَبُطْلَانًا، عَلَى أَنَّ اسْتِفَادَةَ قَصْرِ التَّحْرِيمِ عَلَى السَّكَرِ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ مِنْ مَنْطُوقِ لَفْظِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مُشْكِلٌ، وَاسْتِفَادَتُهُ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ خِلَافُ الْمَذْهَبِ فَلْيُتَأَمَّلْ (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ الْمُفْسِدَ هُوَ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا) فَإِنْ قِيلَ: الْقَدَحُ الْأَخِيرُ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْكِرًا بِمَا تَقَدَّمَهُ لَا بِانْفِرَادِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا
قُلْنَا: لَمَّا وُجِدَ السُّكْرُ بِشُرْبِ الْقَدَحِ الْأَخِيرِ أُضِيفَ الْحُكْمُ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ عِلَّةً مَعْنًى وَحُكْمًا، كَذَا ذَكَرَهُ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ
وَاعْتَرَضَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَلَى الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا أَوْلَى، وَالْمَجْمُوعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ اهـ أَقُولُ: إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ وَالْمَجْمُوعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَجْمُوعِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ شَيْئًا مِمَّا قَبْلَ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ اسْمًا وَلَا مَعْنًى وَلَا حُكْمًا؛ إذْ الْعِلَّةُ اسْمًا مَا يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ، وَالْعِلَّةُ مَعْنًى مَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ، وَالْعِلَّةُ حُكْمًا مَا يَتَّصِلُ بِهِ الْحُكْمُ، وَلَا يَتَرَاخَى عَنْهُ كَمَا عُرِفَ كُلُّهُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ شَيْئًا مِمَّا قَبْلَ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ لَيْسَ بِصِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَجْمُوعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فَهُوَ لَا يَقْدَحُ فِي مَطْلُوبِنَا هُنَا، إذْ لَا نُنْكِرُ حُرْمَةَ مَجْمُوعِ الْأَقْدَاحِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ عِنْدَ اشْتِمَالِهِ عَلَى الْقَدَحِ الْمُسْكِرِ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ حُرْمَةَ مَا قَبْلَ الْقَدَحِ الْمُسْكِرِ بِانْفِرَادِهِ
نَعَمْ بَقِيَ الْكَلَامُ فِي أَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ أَوْلَى أَمْ إلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ وَحْدَهُ؟ وَالظَّاهِرُ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ وَحْدَهُ عِلَّةً وَمَعْنًى وَحُكْمًا لَا اسْمًا عَلَى مَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَالْحُكْمُ إنَّمَا يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ اسْمًا، لَكِنَّ الْفَاضِلَ التَّفْتَازَانِيَّ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ فِي مَبَاحِثِ الْعِلَّةِ مِنْ بَابِ الْحُكْمِ: ذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى أَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْحُكْمِ، وَيَصِيرُ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ كَالْمَنِّ الْأَخِيرِ فِي أَثْقَالِ السَّفِينَةِ وَالْقَدَحِ الْأَخِيرِ فِي السُّكْرِ انْتَهَى
وَحِينَئِذٍ يَصِيرُ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ عِلَّةً اسْمًا أَيْضًا: أَيْ كَمَا أَنَّهُ عِلَّةٌ مَعْنًى وَحُكْمًا فَيَنْتَظِمُ أَمْرُ إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute