وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ إلَى الْكَثِيرِ فَأُعْطِيَ حُكْمَهُ، وَالْمُثَلَّثُ لِغِلَظِهِ لَا يَدْعُو وَهُوَ فِي نَفْسِهِ غِذَاءٌ فَبَقِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ: وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ إذْ هُوَ
وَحْدَهُ بِلَا غُبَارٍ، ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الْحَرَامُ هُوَ الْمُسْكِرُ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَجَازٌ، وَعَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ حَقِيقَةٌ، وَهُوَ مُرَادٌ فَلَا يَكُونُ الْمَجَازُ مُرَادًا انْتَهَى
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِشَيْءٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى؛ إذْ لَيْسَ الْكَلَامُ هَا هُنَا فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الْمُسْكِرِ عَلَى شَيْءٍ وَعَدَمِ إطْلَاقِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يُفِيدَ التَّشْبِيثَ بِرُجْحَانِ الْحَقِيقَةِ عَلَى الْمَجَازِ شَيْئًا بَلْ إنَّمَا الْكَلَامُ هُنَا فِي أَنَّ الْمُفْسِدَ لِلْعَقْلِ هُوَ الْقَدَحُ الْمُسْكِرُ: أَيْ الْمُزِيلُ لِلْعَقْلِ سَوَاءٌ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْمُسْكِرِ حَقِيقَةً أَمْ لَا دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَقْدَاحِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَكَانَ الْحَرَامُ هُوَ الْقَدَحَ الْمُزِيلَ لِلْعَقْلِ لَا غَيْرَ
وَبِالْجُمْلَةِ مَدَارُ الِاسْتِدْلَالِ هَا هُنَا عَلَى الْمَعْنَى وَهُوَ إزَالَةُ الْعَقْلِ دُونَ اللَّفْظِ، فَلَمَّا وَرَدَ السُّؤَالُ بِأَنَّ الْقَدَحَ الْأَخِيرَ لَا يُزِيلُ الْعَقْلَ بِانْفِرَادِهِ بَلْ بِمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَقْدَاحِ مَدْخَلٌ أَيْضًا فِي إزَالَةِ الْعَقْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْرُمَ أَيْضًا لَمْ يُفِدْ أَنْ يُقَالَ: إنَّ لَفْظَ الْمُسْكِرِ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَجَازًا وَعَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ حَقِيقَةً شَيْئًا فِي دَفْعِ ذَلِكَ السُّؤَالِ أَصْلًا، وَإِنَّمَا يَتَمَشَّى ذَلِكَ فِي الْجَوَابِ عَنْ اسْتِدْلَالِ الْخَصْمِ بِقَوْلِهِ ﷺ «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ»
وَمَحَلُّهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ؛ إذْ هُوَ الْمُسْكِرُ حَقِيقَةً
وَقَصَدَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى صَاحِبِ الْعِنَايَةِ قَوْلَهُ الْمَذْكُورَ بِوَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ: إطْلَاقُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ وَمَا تَقَدَّمَهُ مَجَازٌ بِلَا شُبْهَةٍ
وَأَمَّا إطْلَاقُهُ عَلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ الْقَدَحِ الْأَخِيرِ حَقِيقَةً وَهُوَ مُرَادٌ فَلَا يَكُونُ الْمَجَازُ مُرَادًا انْتَهَى
أَقُولُ: وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ إذَا كَانَ مَجَازًا بِلَا شُبْهَةٍ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُهُ عَلَى الْمَجْمُوعِ حَقِيقَةً، فَإِنَّ الْمَجْمُوعَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ أَيْضًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجْمُوعِ الْمُرَكَّبِ مِمَّا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ وَمِمَّا هُوَ مَجَازٌ فِيهِ لَا يَكُونُ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ هِيَ الْكَلِمَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ، وَالْمَجْمُوعُ الْمُرَكَّبُ مِمَّا وُضِعَتْ لَهُ وَمِمَّا لَمْ تُوضَعْ لَهُ لَيْسَ مِمَّا وُضِعَتْ لَهُ قَطْعًا
وَلَوْ سُلِّمَ أَنْ يَكُونَ إطْلَاقُهُ عَلَى الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ حَقِيقَةً فَلَا يَضُرُّنَا؛ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ مُسْكِرًا كَوْنُ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ أَيْضًا مُسْكِرًا حَتَّى يَلْزَمَ كَوْنُ مَا تَقَدَّمَ عَلَى الْقَدَحِ الْأَخِيرِ حَرَامًا أَيْضًا تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلُهُ وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّهُ يَدْعُو لِرِقَّتِهِ وَلَطَافَتِهِ إلَى الْكَثِيرِ فَأُعْطِيَ حُكْمُهُ) أَقُولُ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا التَّقْرِيرَ يَقْتَضِي كَوْنَ حُرْمَةِ الْخَمْرِ مُعَلَّلَةً، وَقَدْ صَرَّحَ فِيمَا مَرَّ بِأَنَّ الْخَمْرَ عَيْنُهُ حَرَامٌ غَيْرُ مَعْلُولٍ عِنْدَنَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ تَعْلِيلَهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ ﷺ «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا، وَالسُّكْرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» فَكَانَ الَّذِي يَنْبَغِي هَا هُنَا أَنْ يُقَالَ: وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْقَلِيلُ مِنْ الْخَمْرِ لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُهُ ﵊ «حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا» الْحَدِيثَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هَا هُنَا عَلَى التَّنَزُّلِ وَإِلْزَامِ الْخَصْمِ بِأَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ جَوَابًا عَنْ قَوْلِ الْخَصْمِ، وَلِأَنَّ الْمُسْكِرَ يُفْسِدُ الْعَقْلَ فَيَكُونُ حَرَامًا قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ فَتَبَصَّرْ (قَوْلُهُ وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَكَانَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْحَدِيثَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ رَوَاهُمَا وَلَمْ يَفْعَلْ كَأَنَّهُ اكْتَفَى بِمُعَارَضَةِ مَا رَوَاهُ لَهُمَا انْتَهَى
أَقُولُ: تَوْجِيهُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ دَلَالَةَ الْحَدِيثَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ اللَّذَيْنِ رَوَاهُمَا الْخَصْمُ