للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَنَا: وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى التَّكْفِيرِ فِي الْعَمْدِ أَمَسُّ مِنْهَا إلَيْهِ فِي الْخَطَأِ فَكَانَ أَدْعَى إلَى إيجَابِهَا

وَلَنَا أَنَّهُ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ، وَفِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَلَا تُنَاطُ بِمِثْلِهَا، وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مِنْ الْمَقَادِيرِ،

فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ

وَالْأَوْلَى أَنْ يَكْتَفِيَ فِي الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: إنَّ فِي الصُّلْحِ الْمُرَاضَاةَ، إذْ لَا مَانِعَ مِنْ الْأَخْذِ فِيهِ بَعْدَ مَا وُجِدَ رِضَا الْقَاتِلِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ انْتَهَى

أَقُولُ: بَحْثُهُ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لِأَنَّ رِضَا الْقَاتِلِ لَا يُفِيدُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَإِنَّ رِضَاهُ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ رِضَا الْوَلِيِّ يُفِيدُ أَمْرًا زَائِدًا عَلَى رِضَا الْوَلِيِّ وَحْدَهُ، فَإِنَّ التَّصَالُحَ وَالتَّوَافُقَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَقْطَعُ مَادَّةَ الْعَدَاوَةِ وَالْبُغْضِ عَادَةً، وَعَنْ هَذَا قَالَ اللَّهُ ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ بِخِلَافِ رِضَا الْوَلِيِّ وَحْدَهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَنْدَمُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَحْدَهُ فَيَرْجِعُ عَنْهُ فَتَمَّ قَوْلُ الْمُجِيبِ وَالْقَتْلُ بَعْدَهُ ظَاهِرُ الْعَدَمِ، وَقَدْ كَانَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ أَشَارَ إلَى مَا قُلْنَا حَيْثُ قَالَ فِي بَسْطِ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ: قُلْتُ لَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَصَالَحَا بِرِضَاهُمَا عَلَى الْمَالِ كَانَ وَهُوَ قَصْدُ الْقَتْلِ مُنْدَفِعًا؛ لِأَنَّ لِلتَّرَاضِي وَالتَّصَالُحِ تَأْثِيرًا فِي دَفْعِ الشَّرِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾ وَلَمَّا وَرَدَ الْخَيْرُ انْتَفَى الشَّرُّ لَا مَحَالَةَ لِلتَّضَادِّ بَيْنَهُمَا انْتَهَى

ثُمَّ قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَعُورِضَ بِقَوْلِهِ «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ: إنْ أَحَبُّو قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّو أَخَذُوا الدِّيَةَ» وَبِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ لِمَعْنَى الِانْتِقَامِ وَتَشَفِّي صُدُورِ الْأَوْلِيَاءِ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ تُقْتَلُ بِوَاحِدٍ، وَالْقِيَاسُ لَا يَقْتَضِيهِ، فَكَانَ لِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْوَلِيِّ وَذَلِكَ بِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْقِصَاصِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ خَبَرٌ وَاحِدٌ فَلَا يُعَارِضُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ الْمَشْهُورَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَأَنَّ الْقِصَاصَ لِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْوَلِيِّ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ وَهُوَ الِانْتِقَامُ وَتَشَفِّي الصُّدُورِ، فَإِنَّهُ شُرِعَ زَجْرًا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إفْنَاءِ قَبِيلَةٍ بِوَاحِدٍ، لَا؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً عِنْدَ قَتْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، بَلْ الْقَاتِلُ وَأَهْلُهُ لَوْ بَذَلُوا مَا مَلَكُوهُ وَأَمْثَالَهُ مَا رَضِيَ بِهِ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، فَكَانَ إيجَابُ الْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ تَضْيِيعَ حِكْمَةِ الْقِصَاصِ انْتَهَى

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ إذْ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ: إنَّمَا يَكُونُ إيجَابُ الْمَالِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ تَضْيِيعًا لِحِكْمَةِ الْقِصَاصِ أَنْ لَوْ كَانَ إيجَابُهُ فِي مُقَابَلَتِهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْيِينِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ التَّعْيِينِ بَلْ عَلَى وَجْهِ تَخْيِيرِ الْوَلِيِّ بَيْنَ أَخْذِ الْمَالِ وَبَيْنَ الْقِصَاصِ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْخَصْمِ فَلَا تَضْيِيعَ لِحِكْمَةِ الْقِصَاصِ؛ إذْ لِلْوَلِيِّ حِينَئِذٍ الْقُدْرَةُ عَلَى الِانْتِقَامِ وَتَشَفِّي الصُّدُورِ بِاخْتِيَارِ الْقِصَاصِ، فَإِذَا لَمْ يَخْتَرْهُ بَلْ اخْتَارَ الْمَالَ كَانَ تَارِكًا لِلِانْتِقَامِ بِاخْتِيَارِهِ فَكَانَ كَمَا إذَا عَفَا أَوْ صَالَحَ فِي إسْقَاطِ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّهِ (قَوْلُهُ: وَلَنَا أَنَّهُ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ وَفِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَلَا تُنَاطُ بِمِثْلِهَا) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: يُشْكِلُ بِكَفَّارَةِ قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ وَمَعَ هَذَا تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ

قُلْتُ: هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الْمَحَلِّ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَكَ حَلَالَانِ فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ يَلْزَمُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ كَانَ جِنَايَةَ الْفِعْلِ لَوَجَبَ جَزَاءَانِ، وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمَحَلِّ يَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ انْتَهَى

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ

أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ السُّؤَالَ الْمَذْكُورَ؛ لِأَنَّ مَوْرِدَهُ مَضْمُونُ الدَّلِيلِ الْمَزْبُورِ، وَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تُنَاطُ بِمَا هُوَ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ لَا أَصْلُ الْمُدَّعِي، وَهُوَ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَإِذَا سُلِّمَ كَوْنُ قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ كَبِيرَةً مَحْضَةً يَلْزَمُ أَنْ يُشْكِلَ الدَّلِيلُ الْمَزْبُورُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ جِنَايَةَ الْفِعْلِ أَوْ جِنَايَةَ الْمَحَلِّ، وَكَوْنُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَحَلِّ يَسْتَوِي فِيهِ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ إنَّمَا يُفِيدُ لَوْ أَوْرَدَ السُّؤَالَ عَلَى أَصْلِ الْمُدَّعِي، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ حِينَئِذٍ بِأَنَّ مَا قُلْنَاهُ فِي جِنَايَةِ الْفِعْلِ دُونَ جِنَايَةِ الْمَحَلِّ، وَقَتْلُ صَيْدِ الْحَرَمِ مِنْ قَبِيلِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى

وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ جَزَاءُ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ لَا جَزَاءُ الْمَحَلِّ أَصْلًا، فَلَوْ كَانَ قَتْلُ صَيْدِ الْحَرَمِ جِنَايَةً عَلَى الْمَحَلِّ لَا جِنَايَةَ الْفِعْلِ لَزِمَ أَنْ لَا تَصْلُحَ الْكَفَّارَةُ لِكَوْنِ الْكَفَّارَةِ جَزَاءَ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ لَا جَزَاءَ الْمَحَلِّ أَصْلًا (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مِنْ الْمَقَادِيرِ

<<  <  ج: ص:  >  >>