للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَهُ قَوْلُهُ «أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا، وَفِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَلِأَنَّ الْآلَةَ غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِلْقَتْلِ وَلَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِيهِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهَا عَلَى غِرَّةٍ مِنْ الْمَقْصُودِ قَتْلُهُ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْقَتْلُ غَالِبًا فَقُصِرَتْ الْعَمْدِيَّةُ نَظَرًا إلَى الْآلَةِ، فَكَانَ شِبْهُ الْعَمْدِ كَالْقَتْلِ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا الصَّغِيرَةِ

وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ تُرَجَّحُ عَلَى إشَارَةِ النَّصِّ عِنْدَ التَّعَارُضِ فَعَمِلْنَا بِعِبَارَةِ قَوْله تَعَالَى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْقِصَاصَ جَزَاءُ الْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ وَجَزَاءُ الْفِعْلِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ كَمَا بَيَّنَ فِي التَّوْضِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ

وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَجَزَاءُ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَيْضًا

وَالظَّاهِرُ مِنْ الْجَزَاءِ الْمُضَافِ إلَى الْفَاعِلِ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾ هُوَ جَزَاءُ فِعْلِهِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ مَذْكُورًا فِيهِ، بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ لَوْ أَوْجَبْنَاهَا

وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ هَا هُنَا نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ: وَلَا وَجْهَ لِحَمْلِ الْآيَةِ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ جَزَاءُ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ كَانَ الْمَذْكُورُ جَزَاءَ الرِّدَّةِ، وَلِأَنَّ زِيَادَةَ الِاسْتِحْلَالِ زِيَادَةٌ عَلَى الشَّرْطِ الْمَنْصُوصِ فَيَكُونُ نَسْخًا

وَأَمَّا تَأْوِيلُ الْخُلُودِ فَعَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ عَامَلَهُ بِعَدْلِهِ أَوْ عَلَى مَعْنَى تَطْوِيلِ الْمُدَّةِ مَجَازًا يُقَالُ خَلَدَ فُلَانٌ فِي السِّجْنِ إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ انْتَهَى

أَقُولُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَيْنِك الدَّلِيلَيْنِ الْمَسُوقَيْنِ لِعَدَمِ وَجْهِ حَمْلِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ بِمُسْتَقِيمٍ

أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا فَلِأَنَّ كَوْنَ الْمَذْكُورِ فِي هَاتِيك الْآيَةِ جَزَاءَ قَتْلِ الْعَمْدِ مِمَّا لَا يُنَافِيهِ كَوْنُهُ جَزَاءَ الرِّدَّةِ أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ حَمْلِهَا عَلَى الْمُسْتَحِلِّ، إذْ يَصِيرُ الْمَذْكُورُ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ جَزَاءَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ الْمَخْصُوصِ وَهُوَ الْقَتْلُ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْلَالِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَتْلَ بِهَذَا الطَّرِيقِ مُسْتَلْزِمٌ لِلرِّدَّةِ، فَفِي الْآيَةِ؛ إذْ ذَاكَ بَيَانُ جَزَاءِ الرِّدَّةِ الَّتِي سَبَبُهَا الْقَتْلُ الْمَخْصُوصُ، وَفِي التَّعْبِيرِ فِي الشَّرْطِ بِمَنْ ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ دُونَ مَنْ يَرْتَدُّ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَائِدَةُ التَّنْبِيهِ عَلَى سَبَبِيَّةِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِطَرِيقِ الِاسْتِحْلَالِ لِلِارْتِدَادِ الَّذِي جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ عَلَى الْخُلُودِ، وَهَذَا مَعْنًى لَطِيفٌ لَا يَخْفَى

وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا فَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ الْمَزْبُورَةِ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ زِيَادَةُ الِاسْتِحْلَالِ عَلَى الشَّرْطِ الْمَنْصُوصِ، بَلْ يَكُونُ الِاسْتِحْلَالُ حِينَئِذٍ مَدْلُولَ نَفْسِ الشَّرْطِ الْمَنْصُوصِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ ﴿مُتَعَمِّدًا﴾ مَعْنَى مُسْتَحِلًّا مَجَازًا بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الْخُلُودِ، فِي الْجَزَاءِ، كَمَا أَنَّ أَئِمَّتَنَا حَمَلُوا مُتَعَمِّدًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِ النَّبِيِّ «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ» وَبِأَنْ يَكُونَ مَعْنَى مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مَنْ يَقْتُلُهُ لِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا كَمَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْعَقَائِدِ، فَيَكُونُ مَدَارُهُ عَلَى قَاعِدَةِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْمُشْتَقِّ يَقْتَضِي عَلَيْهِ الْمَأْخَذَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ قَتْلَ الْمُؤْمِنِ لِكَوْنِهِ مُؤْمِنًا يَقْتَضِي اسْتِحْلَالَ قَتْلِهِ فَيَحْصُلُ الدَّلَالَةُ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ مِنْ نَظْمِ النَّصِّ الْمَزْبُورِ فَلَا يَلْزَمُ النَّسْخُ أَصْلًا، وَالْعَجَبُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَجِلَّاءِ وَهُوَ أَصْحَابُ الْمَبْسُوطِ وَالْأَسْرَارِ وَالنِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ أَنَّهُ كَيْفَ خَفِيَ عَلَيْهِمْ مَا ذَكَرْنَا

قَالَ الْقَاضِي الْبَيْضَاوِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ: وَهُوَ عِنْدَنَا إمَّا مَخْصُوصٌ بِالْمُسْتَحِلِّ لَهُ كَمَا ذَكَرَهُ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ، وَيُؤَيِّدُهُ «أَنَّهُ نَزَلَ فِي مِقْيَسِ بْنِ حُبَابَةَ وَجَدَ أَخَاهُ هِشَامًا قَتِيلًا فِي بَنِي النَّجَّارِ وَلَمْ يَظْهَرْ قَاتِلُهُ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ دِيَتَهُ فَدَفَعُوا، ثُمَّ حَمَلَ عَلَى مُسْلِمٍ فَقَتَلَهُ وَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ مُرْتَدًّا»

أَوْ الْمُرَادُ بِالْخُلُودِ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ، فَإِنَّ الدَّلَائِلَ مُتَظَاهِرَةٌ عَلَى أَنَّ عُصَاة الْمُؤْمِنِينَ

<<  <  ج: ص:  >  >>