وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِطَرِيقِ التَّغَالُبِ غَالِبٌ، وَالْقِصَاصُ مَزْجَرَةٌ لِلسُّفَهَاءِ فَيَجِبُ تَحْقِيقًا لِحِكْمَةِ الْإِحْيَاءِ.
(وَإِذَا قَتَلَ وَاحِدٌ جَمَاعَةً فَحَضَرَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِينَ قُتِلَ لِجَمَاعَتِهِمْ وَلَا شَيْءَ لَهُمْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنْ حَضَرَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قُتِلَ لَهُ وَسَقَطَ حَقُّ الْبَاقِينَ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُقْتَلُ بِالْأَوَّلِ مِنْهُمْ وَيَجِبُ لِلْبَاقِينَ الْمَالُ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا وَلَمْ يُعْرَفْ الْأَوَّلُ قُتِلَ لَهُمْ وَقُسِمَتْ الدِّيَاتُ بَيْنَهُمْ، وَقِيلَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَيُقْتَلُ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ. لَهُ أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْوَاحِدِ قِتْلَاتٌ وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ فِي حَقِّهِ قَتْلُ وَاحِدٍ فَلَا تَمَاثُلَ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ، إلَّا أَنَّهُ عُرِفَ بِالشَّرْعِ. وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ فَجَاءَ التَّمَاثُلُ أَصْلُهُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ، إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ،
نَاسِخًا لِلْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ كَمَا لَا يَكُونُ الْقِيَاسُ نَاسِخًا لِشَيْءٍ مِنْهُمَا، فَالْحَقُّ فِي أُسْلُوبِ تَحْرِيرِ هَذَا الْمَقَامِ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِحَدِيثِ كَوْنِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مُؤَيَّدَةً لِمَا فِي مُقْتَضَى الْقِيَاسِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَنْ يُبَيِّنَ عَدَمَ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ مَدْلُولِ تِلْكَ الْآيَةِ وَبَيْنَ جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ هَاهُنَا، وَسَيَجِيءُ مِنَّا الْكَلَامُ فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْقَتْلَ بِطَرِيقِ التَّغَالُبِ غَالِبٌ وَالْقِصَاصُ مَزْجَرَةٌ لِلسُّفَهَاءِ فَيَجِبُ تَحْقِيقًا لِحِكْمَةِ الْإِحْيَاءِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: مَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْمَعْقُولِ إنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسًا عَلَى مُجْمَعٍ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي الشَّرْعِ، وَإِنْ كَانَ فَلَا يَرْبُو عَلَى الْقِيَاسِ الْمُقْتَضِي لِعَدَمِهِ الْمُؤَيِّدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ قِيَاسٌ عَلَى سَائِرِ أَبْوَابِ الْعُقُوبَاتِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى مَا يُوجِبُ الْفَسَادَ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَيَرْبُو عَلَى ذَلِكَ بِقُوَّةِ أَثَرِهِ الْبَاطِنِ وَهُوَ إحْيَاءُ حِكْمَةِ الْإِحْيَاءِ، وقَوْله تَعَالَى ﴿أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ لَا يُنَافِيهِ لِأَنَّهُمْ فِي إزْهَاقِ الرُّوحِ الْغَيْرِ الْمُتَجَزِّئِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ جَعْلَ الْأَشْخَاصِ الْمُتَعَدِّدَةِ الذَّوَاتِ فِي الْحَقِيقَةِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ بِمُجَرَّدِ صُدُورِ إزْهَاقِ الرُّوحِ الْغَيْرِ الْمُتَجَزِّئِ عَنْ مَجْمُوعِهِمْ وَجَعَلَهُمْ مُسَاوِينَ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ بِحَيْثُ يَتَحَقَّقُ بَيْنَ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ مُمَاثَلَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْقِصَاصِ بَعِيدٌ جِدًّا عَنْ مُسَاعِدَةِ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَأَيْضًا يُنَافِي هَذَا مَا سَيَأْتِي فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَ أَئِمَّتِنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ فَكَانَ الصَّادِرُ مِنْهُمْ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ قَتْلَاتٍ مُتَعَدِّدَةً عَلَى عَدَدِ رُءُوسهمْ فَحَصَلَتْ الْمُمَاثَلَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقِصَاصِ.
وَالْحَقُّ عِنْدِي هُنَا أَنْ يُقَالَ: إنَّ قَوْله تَعَالَى ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ لَا يُنَافِي مَا قَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذْ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى اعْتِبَارِ الْوِحْدَةِ فِي النَّفْسِ، بَلْ فِيهِ مُجَرَّدُ مُقَابِلَةِ جِنْسِ النَّفْسِ بِجِنْسِ النَّفْسِ كَمَا تَرَى، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ أَنْ يُقْتَصَّ النَّفْسُ بِغَيْرِ النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ﴾ وَنَحْوَهُمَا وَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ تَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقِصَاصِ عِنْدَ تَعَدُّدِ النَّفْسِ فِي جَانِبِ الْقَاتِلِ أَوْ الْمَقْتُولِ فَإِنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الْعَيْنَ الْيُمْنَى لَا تُقْتَصُّ بِالْعَيْنِ الْيُسْرَى وَكَذَا الْعَكْسُ، مَعَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى ﴿وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ﴾.
لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ نَظَرًا إلَى ظَاهِرِ إطْلَاقِهِ، بَلْ إنَّمَا يُسْتَفَادُ ذَلِكَ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ فَكَذَا هُنَا تَبَصَّرْ
(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ بِوَصْفِ الْكَمَالِ فَجَاءَ التَّمَاثُلُ أَصْلُهُ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا وَجَبَ الْقِصَاصُ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute