للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَدْ وُجِدَ إتْلَافُ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ بِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَالضَّمَانُ يَتَقَدَّرُ بِقِيمَةِ الْكُلِّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْجُثَّةَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَرِعَايَةً لِلْمُمَاثَلَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَقَأَ عَيْنَيْ حُرٍّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ، وَبِخِلَافِ عَيْنَيْ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ، وَفِي قَطْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ وَفَقْءِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ لَمْ يُوجَدْ تَفْوِيتُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ. وَلَهُمَا أَنَّ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ لَمَّا كَانَ مُعْتَبَرًا وَجَبَ أَنْ يَتَخَيَّرَ الْمَوْلَى عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَاهُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَإِنَّ مَنْ خَرَقَ ثَوْبَ غَيْرِهِ خَرْقًا فَاحِشًا إنْ شَاءَ الْمَالِكُ دَفَعَ الثَّوْبَ إلَيْهِ وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الثَّوْبَ وَضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ. وَلَهُ أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الذَّاتِ فَالْآدَمِيَّةُ غَيْرُ مُهْدَرَةٍ فِيهِ وَفِي الْأَطْرَافِ أَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ عَبْدًا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ آخَرَ يُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَهَذَا مِنْ أَحْكَامِ الْآدَمِيَّةِ، لِأَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ أَنْ تُبَاعَ رَقَبَتُهُ فِيهَا ثُمَّ مِنْ أَحْكَامِ الْأُولَى أَنْ لَا يَنْقَسِمَ عَلَى الْأَجْزَاءِ،

فِي حَقِّ الذَّاتِ: أَيْ فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ وَحْدِهِ مُقْتَصَرًا عَلَيْهِ سَاقِطٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَوْجَبَ كَمَالَ الدِّيَةِ بِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بِتَفْوِيتِ الْأَطْرَافِ اهـ.

أَقُولُ: فِيهِ خَلَلٌ زَائِدٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ فَسَّرَ الذَّاتَ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ جَمِيعَ الْبَدَنِ مِنْ الْأَطْرَافِ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: بَدَنُ الْإِنْسَانِ جَسَدُهُ وقَوْله تَعَالَى ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾ قَالُوا: بِجَسَدٍ لَا رُوحَ فِيهِ اهـ.

وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالذَّاتِ مَا يُقَابِلُ الْأَطْرَافَ وَهُوَ النَّفْسُ وَإِتْلَافُهَا بِإِزَالَةِ الرُّوحِ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ عَلَّلَ سُقُوطَ اقْتِصَارِ اعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ عَلَى الذَّاتِ بِقَوْلِهِ فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَوْجَبَ كَمَالَ الدِّيَةِ بِتَفْوِيتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ بِتَفْوِيتِ الْأَطْرَافِ، وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ لِأَنَّ إيجَابَ الشَّرْعِ كَمَالِ الدِّيَةِ بِتَفْوِيتِ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الْأَطْرَافِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إيجَابُهُ إيَّاهُ لِلْآدَمِيَّةِ كَمَا فِي الْحُرِّ تَدَبَّرْ. وَقَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ مِنْ الشُّرَّاحِ فِي حَلِّ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا: يَعْنِي أَنَّ اعْتِبَارَ الْمَالِيَّةِ فِي الْأَطْرَافِ لَا فِي الذَّاتِ لِأَنَّهَا تَسْلُكُ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ وَلِهَذَا لَا يَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ، وَفَسَّرَ الذَّاتَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ الْمَالِيَّةُ قَائِمَةٌ فِي الذَّاتِ بِالْعَبْدِ حَيْثُ قَالَ: أَيْ فِي الْعَبْدِ. وَقَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِهَا فِي حَقِّ الذَّاتِ قَصْرًا عَلَيْهِ: يَعْنِي أَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ مُقْتَصَرًا فِي النَّفْسِ لَا فِي الْأَطْرَافِ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بَدَلُ الْآدَمِيَّةِ لَا بَدَلَ الْمَالِيَّةِ، وَلِهَذَا لَا يُجَاوِزُ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ بَلْ يَنْقُصُ عَشَرَةً فَتَكُونُ الْمَالِيَّةُ فِي الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ الْأَطْرَافِ اهـ.

أَقُولُ: هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُطَابِقُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ الْمَارَّةِ فِي صَدْرِ الْفَصْلِ مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ فِي اسْتِفَادَتِهِ مَنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا تَمَحُّلٌ كَثِيرٌ كَمَا تَرَى، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِمَا ذَكَرَهُ هُنَاكَ مِنْ قِبَلِ أَبِي يُوسُفَ، وَكَلَامُهُ هُنَا مَسُوقٌ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الشَّافِعِيِّ مِنْ قِبَلِ أَئِمَّتِنَا جَمِيعًا وَلِهَذَا قَالَ: وَنَحْنُ نَقُولُ: فَلَا بُدَّ أَنْ يُطَابِقَ لِأَصْلِهِمْ جَمِيعًا وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ. وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ هُنَا لَيْسَ بِخَالٍ عَنْ الِاضْطِرَابِ كَمَا لَا يَذْهَبُ عَلَى الْفَطِنِ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْكَافِي تَفَطَّنَ لَهُ حَيْثُ تَرَكَ أُسْلُوبَ تَقْرِيرِ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَسَلَكَ مَسْلَكًا آخَرَ فِي التَّقْرِيرِ وَالْبَيَانِ مَعَ كَوْنِ عَادَتِهِ أَنْ يَقْتَفِيَ أَثَرَ الْمُصَنِّفِ فِي وَضْعِ الْمَسَائِلِ وَتَقْرِيرِ الدَّلَائِلِ.

(قَوْلُهُ وَلَهُ أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً فِي الذَّاتِ فَالْآدَمِيَّةُ غَيْرُ مُهْدَرَةٍ فِيهِ وَفِي الْأَطْرَافِ أَيْضًا)

<<  <  ج: ص:  >  >>