الْيَمِينَ عُهِدَ فِي الشَّرْعِ مُبَرِّئًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا مُلْزِمًا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ ﵊ جَمَعَ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْقَسَامَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ سَهْلٍ وَفِي حَدِيثِ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، وَكَذَا جَمَعَ عُمَرُ ﵁ بَيْنَهُمَا عَلَى وَادِعَةَ. وَقَوْلُهُ ﵊ «تُبَرِّئُكُمْ الْيَهُودُ» مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبْرَاءِ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْحَبْسِ،
وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ تَفْصِيلُهُ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي اسْتِحْلَافِهِمْ عَلَى الْعِلْمِ رَأْسًا، وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ الثِّقَاتِ حَامَ حَوْلَ حَلِّ هَذَا الْإِشْكَالِ سِوَى صَاحِبِ الْبَدَائِعِ فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ قِيلَ: أَيَّةُ فَائِدَةٍ فِي الِاسْتِحْلَافِ عَلَى الْعِلْمِ وَهُمْ لَوْ عَلِمُوا الْقَاتِلَ فَأَخْبَرُوا بِهِ لَكَانَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ لِأَنَّهُمْ يُسْقِطُونَ بِهِ الضَّمَانَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَكَانُوا مُتَّهَمِينَ دَافِعِينَ الْغُرْمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «لَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ» وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «لَا شَهَادَةَ لِجَارِّ الْمَغْنَمِ وَلَا لِدَافِعِ الْمَغْرَمِ» قِيلَ: إنَّمَا اُسْتُحْلِفُوا عَلَى الْعِلْمِ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، لِأَنَّ السُّنَّةَ هَكَذَا وَرَدَتْ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ فَاتُّبِعْتِ السُّنَّةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْقَلَ فِيهِ الْمَعْنَى. ثُمَّ فِيهِ فَائِدَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ عَبْدًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَيُقِرُّ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ، لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ بِالْقَتْلِ الْخَطَإِ صَحِيحٌ فَيُقَالُ لَهُ: ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ فَكَانَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ مُفِيدًا، وَجَائِزٌ أَنْ يُقِرَّ عَلَى عَبْدِ غَيْرِهِ فَصَدَّقَهُ مَوْلَاهُ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ فَكَانَ مُفِيدًا فَجَازَ أَنْ يَكُونَ التَّحْلِيفُ عَلَى الْعِلْمِ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَصْلِ، ثُمَّ بَقِيَ هَذَا الْحُكْمُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْ الْحَالِفِينَ عَبْدٌ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ «فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ رَمَلَ فِي الطَّوَافِ إظْهَارًا لِلْجَلَادَةِ وَالْقُوَّةِ لِلْكَفَرَةِ وَيَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَظْهَرَ الْيَوْمَ الْجَلَادَةَ مِنْ نَفْسِهِ» ثُمَّ زَالَ ذَلِكَ الْيَوْمُ وَبَقِيَ الرَّمَلُ فِي الطَّوَافِ كَذَا هَذَا.
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَمَرَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا بِالْقَتْلِ، فَلَوْ أَقَرَّ بِهِ يَلْزَمُهُ فِي مَالِهِ فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا عَلِمْتُ لَهُ قَاتِلًا، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ عَلِمْتُ لَهُ قَاتِلًا وَهُوَ الصَّبِيُّ الَّذِي أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ لَكَانَ حَاصِلُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَيَسْقُطُ الْحُكْمُ عَنْ غَيْرِهِ فَكَانَ مُفِيدًا، إلَى هُنَا لَفْظُ الْبَدَائِعِ فَلْيَكُنْ هَذَا عَلَى ذِكْرٍ مِنْك
(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ ﵊ جَمَعَ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْقَسَامَةِ فِي حَدِيثِ ابْنِ سَهْلٍ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يُجْرِ الْقَسَامَةَ بَيْنَهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، «وَإِنَّمَا وَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ عِنْدِهِ»، وَفِي رِوَايَةٍ «مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ» عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَنَقَلَهُ الشُّرَّاحُ هُنَا انْتَهَى. أَقُولُ: أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى وُجُوبِ الْقَسَامَةِ عَلَى الْيَهُودِ بِقَوْلِهِ «تُبَرِّئُكُمْ الْيَهُودُ بِأَيْمَانِهَا» وَإِنَّمَا لَمْ يُجْرِ الْقَسَامَةَ بَيْنَهُمْ لِعَدَمِ طَلَبِ أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ إيَّاهَا حَيْثُ قَالُوا: لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كُفَّارٍ لَا يُبَالُونَ مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ، وَمُطَالَبَةُ وَلِيِّ الْقَتِيلِ بِالْقَسَامَةِ شَرْطٌ لِإِجْرَائِهَا عَلَى الْخُصُومِ كَمَا عَرَفْته فِيمَا مَرَّ أَثْنَاءَ أَنْ ذَكَرْنَا شُرُوطَ الْقَسَامَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ نَقْلًا عَنْ الْبَدَائِعِ، وَإِنَّمَا وَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ عَلَى سَبِيلِ الْحَمَالَةِ عَنْهُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ إلَيْهِمْ، وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ هُنَا حَيْثُ قَالَا بَعْدَ نَقْلِ الْحَدِيثِ: إنَّمَا وَدَى رَسُولُ اللَّهِ ﵊ لِأَنَّهُ تَجُوزُ الْحَمَالَةُ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَإِنَّ قَضَاءَ دَيْنِ الْغَيْرِ بِرٌّ لَهُ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبِرِّ إلَيْهِمْ حَتَّى جَازَ عِنْدَنَا صَرْفُ الْكَفَّارَاتِ إلَيْهِمْ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ إلَّا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَاضِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ انْتَهَى.
ثُمَّ إنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ التَّوْجِيهِ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حُثْمَةَ كَمَا وَقَعَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ كَمَا وَقَعَ فِي شَرْحِ الْآثَارِ لِلطَّحَاوِيِّ قَصْرًا عَلَى الزُّهْرِيِّ وَأَخْرَجَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ رَوَاهُ فِي مُصَنَّفِهِ، وَمِنْهُمْ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ رَوَاهُ أَيْضًا فِي مُصَنَّفِهِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute