وَكَذَا الْيَمِينُ مُبَرِّئَةٌ عَمَّا وَجَبَ لَهُ الْيَمِينُ وَالْقَسَامَةُ مَا شُرِعَتْ لِتَجِبَ الدِّيَةُ إذَا نَكَلُوا، بَلْ شُرِعَتْ لِيَظْهَرَ الْقِصَاصُ بِتَحَرُّزِهِمْ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَيُقِرُّوا بِالْقَتْلِ، فَإِذَا حَلَفُوا حَصَلَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْ الْقِصَاصِ.
ثُمَّ الدِّيَةُ تَجِبُ بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لَا بِنُكُولِهِمْ، أَوْ وَجَبَتْ بِتَقْصِيرِهِمْ فِي الْمُحَافَظَةِ كَمَا فِي الْقَتْلِ الْخَطَإِ (وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ الْيَمِينَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ) لِأَنَّ الْيَمِينَ فِيهِ مُسْتَحَقَّةٌ لِذَاتِهَا تَعْظِيمًا لِأَمْرِ الدَّمِ وَلِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ،
وَمِنْهُمْ الْوَاقِدِيُّ رَوَاهُ فِي مَغَازِيهِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ. فَإِيجَابُ النَّبِيِّ ﷺ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى الْيَهُودِ صَرِيحٌ بَيِّنٌ وَقَدْ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إجْمَالًا مِنْ قَبْلُ حَيْثُ قَالَ: وَرَوَى ابْنُ الْمُسَيِّبِ «أَنَّ النَّبِيَّ ﵊ بَدَأَ بِالْيَهُودِ فِي الْقَسَامَةِ وَجَعَلَ الدِّيَةَ عَلَيْهِمْ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ» وَفَصَّلَهُ الشُّرَّاحُ حَيْثُ قَالُوا: رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ الْقَسَامَةَ كَانَتْ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَرَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي قَتِيلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وُجِدَ فِي جُبِّ الْيَهُودِ بِخَيْبَرَ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ «فَأَلْزَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْيَهُودَ الدِّيَةَ وَالْقَسَامَةَ» انْتَهَى.
وَكَذَا أَمْرُ إيجَابِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ مَعًا عَلَى الْيَهُودِ ظَاهِرٌ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَتَبَ إلَى أَهْلِ خَيْبَرَ: إنَّ هَذَا قَتِيلٌ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَمَا الَّذِي يُخْرِجُهُ عَنْكُمْ؟ فَكَتَبُوا لَهُ إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَقَعَتْ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مُوسَى ﵊ أَمْرًا، فَإِنْ كُنْت نَبِيًّا فَاسْأَلْ اللَّهَ تَعَالَى مِثْلَ ذَلِكَ، فَكَتَبَ إلَيْهِمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَانِي أَنْ أَخْتَارَ مِنْكُمْ خَمْسِينَ رَجُلًا يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا ثُمَّ تَغْرَمُونَ الدِّيَةَ، قَالُوا: لَقَدْ قَضَيْت فِينَا بِالنَّامُوسِ: أَيْ بِالْوَحْيِ» كَذَا ذُكِرَ الْحَدِيثُ فِي الْكَافِي وَالْبَدَائِعِ وَغَيْرِهِمَا، فَظَهَرَ أَنَّ مَنْشَأَ الْبَحْثِ الْمَزْبُورِ عَدَمُ الْإِحَاطَةِ بِجَوَانِبِ الْمَقَامِ خَبَرًا.
(قَوْلُهُ وَكَذَا الْيَمِينُ تُبَرِّئُ عَمَّا وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ وَالْقَسَامَةُ مَا شُرِعَتْ لِتَجِبَ الدِّيَةُ إذَا نَكَلُوا بَلْ شُرِعَتْ لِيَظْهَرَ الْقِصَاصُ بِتَحَرُّزِهِمْ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَيُقِرُّوا بِالْقَتْلِ، فَإِذَا حَلَفُوا حَصَلَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْ الْقِصَاصِ) أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْجَوَابِ هُوَ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَلِأَنَّ الْيَمِينَ عُهِدَ فِي الشَّرْعِ مُبَرِّئًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَتِمُّ فِيمَا إذَا ادَّعَى وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْقَتْلَ الْعَمْدَ، فَإِنَّ الْمُوجَبَ حِينَئِذٍ هُوَ الْقِصَاصُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ، فَإِنْ حَلَفُوا حَصَلَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْهُ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا ادَّعَى الْقَتْلَ خَطَأً فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْمُوجَبَ حِينَئِذٍ هُوَ الدِّيَةُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُقِرُّوا بِهِ، فَإِذَا حَلَفُوا لَا تَحْصُلُ الْبَرَاءَةُ عَنْهَا بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا عِنْدَنَا. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: وَلِيُّ الْقَتِيلِ وَإِنْ ادَّعَى الْقَتْلَ الْخَطَأَ يَحْلِفُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ بِأَنَّا مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا بِإِطْلَاقِ الْقَتْلِ عَنْ قَيْدِ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ فَيَجُوزُ إنْ وَقَعَ الْقَتْلُ مِنْهُمْ عَمْدًا وَلَمْ يَعْلَمْهُ الْوَلِيُّ بَلْ ظَنَّ أَنَّهُمْ قَتَلُوا قَرِيبَهُ خَطَأً. فَلَوْ أَقَرُّوا فِي مِثْلِ ذَلِكَ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ تَحَرُّزًا عَنْ الْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ بِنَاءً عَلَى إطْلَاقِ الْقَتْلِ فِي تَحْلِيفِهِمْ لَظَهَرَ الْقِصَاصُ، فَإِذَا حَلَفُوا حَصَلَتْ الْبَرَاءَةُ عَنْهُ قَطْعًا. فَإِنْ قُلْت: إذَا كَانَتْ دَعْوَى الْوَلِيِّ مَخْصُوصَةً بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ كَيْفَ يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَتْلِ عِنْدَ التَّحْلِيفِ وَهَلْ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ؟ قُلْت: لَا غَرْوَ فِي ذَلِكَ، وَلَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ، أَلَا يَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِعَيْنِهِ قَتْلَ قَرِيبِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً اُسْتُحْلِفَ خَمْسُونَ مِنْهُمْ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا كَمَا اُسْتُحْلِفَ كَذَلِكَ لَوْ ادَّعَاهُ عَلَى جَمِيعِهِمْ عَلَى مَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ فَتَأَمَّلْ، فَإِنْ حَلَّ هَذَا الْمَحَلُّ بِهَذَا الْوَجْهِ مِمَّا يُضْطَرُّ إلَيْهِ فِي تَصْحِيحِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَإِنْ كَانَ يَرَى تَعَسُّفًا فِي بَادِئِ الرَّأْيِ.
(قَوْلُهُ ثُمَّ الدِّيَةُ تَجِبُ بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لَا بِنُكُولِهِمْ) أَقُولُ: لَا وَجْهَ لِذِكْرِ قَوْلِهِ لَا بِنُكُولِهِمْ هُنَا، بَلْ الْحَقُّ أَنْ يَذْكُرَ بَدَلَهُ لَا بِأَيْمَانِهِمْ لِأَنَّا الْآنَ بِصَدَدِ بَيَانِ مُوجَبِ أَيْمَانِهِمْ، وَأَمَّا مُوجَبُ نُكُولِهِمْ فَإِنَّمَا يَأْتِي بَيَانُهُ مِنْ بَعْدُ بِقَوْلِهِ وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ الْيَمِينَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ فَلَا ارْتِبَاطَ لِقَوْلِهِ لَا بِنُكُولِهِمْ بِمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ الدِّيَةُ تَجِبُ بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا إلَخْ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا مُلْزِمًا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى: يَعْنِي مَا عُهِدَ الْيَمِينُ فِي الشَّرْعِ مُلْزِمًا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، فَالدَّافِعُ لَهُ أَنْ يُقَالَ: الدِّيَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ظَاهِرًا لَا بِأَيْمَانِهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ الْيَمِينُ مُلْزِمًا هُنَا كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى، فَقَوْلُهُ لَا بِنُكُولِهِمْ حَشْوٌ مَحْضٌ فِي دَفْعِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اللَّازِمُ أَنْ يُقَالَ بَدَلَهُ لَا بِأَيْمَانِهِمْ كَمَا لَا يَخْفَى.
(قَوْلُهُ وَمَنْ أَبَى مِنْهُمْ الْيَمِينَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ) قَالَ تَاجُ الشَّرِيعَةِ: هَذَا إذَا ادَّعَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute