بِخِلَافِ النُّكُولِ فِي الْأَمْوَالِ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَدَلٌ عَنْ أَصْلِ حَقِّهِ وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِبَذْلِ الْمُدَّعِي وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا يَسْقُطُ بِبَذْلِ الدِّيَةِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى عَلَى الْبَعْضِ لَا بِأَعْيَانِهِمْ وَالدَّعْوَى فِي الْعَمْدِ أَوْ الْخَطَإِ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَمَيَّزُونَ عَنْ الْبَاقِي، وَلَوْ ادَّعَى عَلَى الْبَعْضِ بِأَعْيَانِهِمْ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ إطْلَاقُ الْجَوَابِ فِي الْكِتَابِ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْمَبْسُوطِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ فِي الْقِيَاسِ تَسْقُطُ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَنْ الْبَاقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَيُقَالُ لِلْوَلِيِّ أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ فَإِنْ قَالَ لَا يُسْتَحْلَفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَمِينًا وَاحِدَةً.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ لِاحْتِمَالِ وُجُودِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ فِيمَا إذَا كَانَ فِي مَكَان يُنْسَبُ إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي الْقَتْلَ عَلَيْهِمْ، وَفِيمَا وَرَاءَهُ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَصَارَ كَمَا إذَا ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِهِمْ.
الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَمْدًا، أَمَّا إذَا ادَّعَاهُ خَطَأً فَنَكَلَ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَلَا يُحْبَسُونَ لِيَحْلِفُوا انْتَهَى. وَأَمَّا سَائِرُ الشُّرَّاحِ فَلَمْ يُقَيِّدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَاهُنَا مِثْلَ مَا قَيَّدَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ، إلَّا أَنَّ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ قَالَا فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ: حُكْمُ الْقَسَامَةِ الْقَضَاءُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ إنْ حَلَفُوا، وَالْحَبْسُ حَتَّى يَحْلِفُوا إنْ أَبَوْا لَوْ ادَّعَى الْوَلِيُّ الْعَمْدَ، وَلَوْ ادَّعَى الْخَطَأَ فَالْقَضَاءُ بِالدِّيَةِ عِنْدَ النُّكُولِ انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ ظَاهِرَ مَا ذَكَرَاهُ هُنَاكَ يُطَابِقُ مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ هُنَا. أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ إطْلَاقِ جَوَابِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ هُنَا وَمِنْ اقْتِضَاءِ دَلِيلِهَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَمِنْ دَلَالَةِ قَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْقَتْلَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ، وَكَذَا إذَا ادَّعَى عَلَى الْبَعْضِ لَا بِأَعْيَانِهِمْ، وَالدَّعْوَى فِي الْعَمْدِ أَوْ الْخَطَأِ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ إلَى أَنْ يَحْلِفَ النَّاكِلُ مُوجَبَ النُّكُولِ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ صُورَتَيْ دَعْوَى الْعَمْدِ وَدَعْوَى الْخَطَإِ، وَعَنْ هَذَا تَرَى أَصْحَابَ الْمُتُونِ قَاطِبَةً أَطْلَقُوا جَوَابَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَكَذَا أَطْلَقَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ امْتَنَعُوا عَنْ الْيَمِينِ حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا انْتَهَى.
وَكَذَا حَالُ سَائِرِ ثِقَاتِ الْأَئِمَّةِ فِي تَصَانِيفِهِمْ، وَكَأَنَّ صَاحِبَ الْغَايَةِ تَنَبَّهَ لِهَذَا حَيْثُ قَالَ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ: حُكْمُ الْقَسَامَةِ الْقَضَاءُ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إذَا حَلَفُوا بَرِئُوا، وَأَمَّا إذَا أَبَوْا الْقَسَامَةَ فَيُحْبَسُونَ حَتَّى يَحْلِفُوا أَوْ يُقِرُّوا انْتَهَى فَإِنَّهُ جَرَى فِي بَيَانِ حُكْمِهَا أَيْضًا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَمَا تَرَى. ثُمَّ أَقُولُ: التَّحْقِيقُ هَاهُنَا هُوَ أَنَّ فِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا أَنَّهُمْ إنْ نَكَلُوا حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ، وَالْأُخْرَى أَنَّهُمْ إنْ نَكَلُوا لَا يُحْبَسُونَ بَلْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ بِلَا تَقْيِيدٍ بِدَعْوَى الْخَطَإِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَدْ أَفْصَحَ عَنْهُ فِي الْمُحِيطِ الْبُرْهَانِيِّ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ وَحَلَّفَ الْقَاضِي خَمْسِينَ رَجُلًا فَنَكَلُوا عَنْ الْحَلِفِ حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ. وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُحْبَسُونَ، وَلَكِنْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَالِكٍ: هَذَا قَوْلُهُ الْآخَرُ، وَكَانَ مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمُحِيطِ. ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي بَابِ الْيَمِينِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى قِصَاصًا عَلَى غَيْرِهِ فَجَحَدَ اُسْتُحْلِفَ بِالْإِجْمَاعِ، ثُمَّ إنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ، وَإِنْ نَكَلَ فِي النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَزِمَهُ الْأَرْشُ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَهَا انْتَهَى، فَمُقْتَضَى إطْلَاقِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ النُّكُولِ فِي الْقَسَامَةِ أَيْضًا هُوَ الْقَضَاءُ بِالدِّيَةِ دُونَ الْحَبْسِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَإِنْ ادَّعَى وَلِيُّ الْقَتِيلِ الْقِصَاصَ مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي عَامَّةِ الْكُتُبِ أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ النُّكُولِ فِي الْقَسَامَةِ هُوَ الْحَبْسُ إلَى الْحَلِفِ بِلَا خِلَافٍ فِيهِ مِنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، نَعَمْ قَدْ ذُكِرَ أَيْضًا فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ أَنَّهُ رَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute