وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ الْعَاقِلَةُ تَتَحَمَّلُهُ كَمَا فِي الْحُرِّ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّ الْقَاتِلَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ فَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ هُمْ أَهْلُ نُصْرَتِهِ وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ أَخَصُّ مِنْ بَعْضٍ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ كَانَ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَكَذَا مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْغَرَامَةِ يَلْزَمُ بَيْتَ الْمَالِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ أَنَّ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ بَدَلٌ مُتْلِفٌ وَالْإِتْلَافُ مِنْهُ، إلَّا أَنَّ الْعَاقِلَةَ تَتَحَمَّلُهَا تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ عَلَى مَا مَرَّ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ عَادَ الْحُكْمُ إلَى الْأَصْلِ.
(وَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ تَعْقِلُهُ عَاقِلَةُ أُمِّهِ) لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَابِتٌ مِنْهَا دُونَ الْأَبِ (فَإِنْ عَقَلُوا عَنْهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ رَجَعَتْ عَاقِلَةُ الْأُمِّ بِمَا أَدَّتْ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي الْقَاضِي لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ) لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الدِّيَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ عِنْدَ الْإِكْذَابِ ظَهَرَ أَنَّ النَّسَبَ لَمْ يَزَلْ كَانَ ثَابِتًا مِنْ الْأَبِ حَيْثُ بَطَلَ اللِّعَانُ بِالْإِكْذَابِ، وَمَتَى ظَهَرَ مِنْ الْأَصْلِ فَقَوْمُ الْأُمِّ تَحَمَّلُوا مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى قَوْمِ الْأَبِ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ فِي ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَفَاءٍ وَلَهُ وَلَدٌ حُرٌّ فَلَمْ يُؤَدِّ كِتَابَتَهُ حَتَّى جَنَى ابْنُهُ وَعَقَلَ عَنْهُ قَوْمُ أُمِّهِ ثُمَّ أُدِّيَتْ الْكِتَابَةُ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْأَدَاءِ يَتَحَوَّلُ وَلَاؤُهُ إلَى قَوْمِ أَبِيهِ مِنْ وَقْتِ حُرِّيَّةِ الْأَبِ وَهُوَ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ قَوْمَ الْأُمِّ عَقَلُوا عَنْهُمْ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ رَجُلٌ أَمَرَ صَبِيًّا بِقَتْلِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَضَمِنَتْ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ الدِّيَةَ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ إنْ كَانَ الْأَمْرُ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَفِي مَالِ الْآمِرِ إنْ كَانَ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي عَلَى الْآمِرِ، أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّ الدِّيَاتِ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ.
قَالَ ﵁: هَاهُنَا عِدَّةُ مَسَائِلَ ذَكَرَهَا مُحَمَّدٌ مُتَفَرِّقَةً، وَالْأَصْلُ الَّذِي يُخَرَّجُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ: حَالُ الْقَاتِلِ إذَا تَبَدَّلَ حُكْمًا فَانْتَقَلَ وَلَاؤُهُ إلَى وَلَاءٍ بِسَبَبِ أَمْرٍ حَادِثٍ لَمْ تَنْتَقِلْ جِنَايَتُهُ عَنْ الْأَوَّلِ قَضَى بِهَا أَوْ لَمْ يَقْضِ، وَإِنْ ظَهَرَتْ حَالَةٌ خَفِيَّةٌ مِثْلُ
لَا يُنْتَقَضُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا بِتَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْحُرِّ إلَى مَا دُونَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ، إذْ لَمْ يُصَرِّحْ أَحَدٌ بِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْآدَمِيَّةِ فِي أَطْرَافِ الْحُرِّ بِالْكُلِّيَّةِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ هُنَا حِينَئِذٍ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ الْمَالِيَّةَ وَالْآدَمِيَّةَ مَعًا فِي أَطْرَافِ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَإِنَّهُمَا لَا يَعْتَبِرَانِ الْآدَمِيَّةَ فِيهَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَقَدْ مَرَّ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْفَصْلِ الْمَزْبُورِ فِي بَيَانِ مَسْأَلَةِ مَنْ فَقَأَ عَيْنَيْ عَبْدٍ إنْسَانٍ، وَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ أَئِمَّتِنَا فَلَا مَعْنَى لَأَنْ يُبْنَى دَلِيلُهَا عَلَى أَصْلِ بَعْضٍ مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ، وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَخْلُو الْمَقَامُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَنْ نَوْعٍ مِنْ الِاضْطِرَابِ كَمَا تَرَى.
(قَوْلُهُ وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ تَتَحَمَّلُهُ كَمَا فِي الْحُرِّ وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ) قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: أَيْ فِي أَوَّلِ فَصْلٍ بَعْدَ بَابِ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ صَاحِبُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute