إلَّا أَنْ يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ، لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ مَحْضٌ وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ لِيُمَلِّكَهُ شَيْئًا.
وَقْتِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ وَصَحَّحَهُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الْكَافِي وَاخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ، أَوْ مِنْ وَقْتِ مَوْتِ الْمُوصِي بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ فِي بَابِ الْوَصَايَا وَالْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَايَةُ الْبَيَانِ.
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَعْدَ أَنْ شَرَحَ الْمَقَامَ بِهَذَا الْمِنْوَالِ: أَقُولُ: لَيْسَ مَبْنَى هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ وُجُودُ الْمُوصَى لَهُ وَبِهِ وَقْتَ مَوْتِ الْمُوصِي، أَوْ لَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنْ وُجُودِهِمَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لِاتِّفَاقِ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ لِصِحَّتِهَا وُجُودُهُمَا وَقْتَ الْمَوْتِ فَقَطْ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا إذْ ذَاكَ دُونَ وَقْتِ الْإِيجَابِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ، وَسَيَجِيءُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ مَا تَرَكَ، وَبِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُحِيطِ نَقْلًا عَنْ الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِبَنِي فُلَانٍ وَلَيْسَ لِفُلَانٍ ابْنٌ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ حَدَثَ لَهُ بَنُونَ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَاتَ الْمُوصِي كَانَ الثُّلُثُ لِلَّذِينَ حَدَثُوا مِنْ بَنِيهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَنْشَأَ الِاخْتِلَافِ لَيْسَ بِذَاكَ بَلْ خُصُوصِيَّةٌ فِي الْمَسْأَلَةِ اعْتَبَرَهَا الطَّحَاوِيُّ وَلَمْ يَتَنَبَّهْ لَهَا غَيْرُهُ، وَهِيَ أَنَّ الْمَفْهُومَ عُرْفًا وَلُغَةً إذَا قِيلَ أَوْصَيْت لِمَا فِي بَطْنِهَا بِكَذَا كَوْنُهُ مَوْجُودًا فِي بَطْنِهَا وَقْتَئِذٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى لِمَا ثَبَتَ وَتَحَقَّقَ فِي بَطْنِهَا فِي هَذَا الْوَقْتِ، إلَى هُنَا كَلَامُ ذَلِكَ الْبَعْضِ.
أَقُولُ: فِيهِ اخْتِلَافٌ فَاحِشٌ، فَإِنَّ قَوْلَهُ لِاتِّفَاقِ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ لِصِحَّتِهَا وُجُودُهُمَا وَقْتَ الْمَوْتِ فَقَطْ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا مَمْنُوعٌ، كَيْفَ وَقَدْ وُضِعَ فِي الْمُحِيطِ وَالذَّخِيرَةِ فَصْلٌ عَلَى حِدَةٍ لِبَيَانِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ فِي الْوَصَايَا وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي أَوْ وُجُودُهُ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، وَذَكَرَ هُنَاكَ أَنَّ حَاصِلَ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ الْمُوصَى بِهِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا يُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ وُجُودُهُ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ، حَتَّى إنَّ مَنْ أَوْصَى لِإِنْسَانٍ بِعَيْنٍ لَا يَمْلِكُهُ ثُمَّ مَلَكَهُ يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ، وَإِذَا كَانَ الْعَيْنُ الْمُوصَى بِهِ فِي مِلْكِ الْمُوصِي يَوْمَ الْوَصِيَّةِ فَالْوَصِيَّةُ تَتَعَلَّقُ بِهِ حَتَّى إذَا هَلَكَ ذَلِكَ الْعَيْنُ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ، وَمَتَى كَانَ الْمُوصَى بِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَهُوَ شَائِعٌ فِي بَعْضِ التَّرِكَةِ فَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ وَتَتَعَلَّقُ الْوَصِيَّةُ بِهِ، فَلَوْ قَالَ أَوْصَيْت لَك بِثُلُثِ غَنَمِي أَوْ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِي وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ غَنَمٌ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ، حَتَّى لَوْ وُجِدَتْ لِلْمُوصِي أَغْنَامٌ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ لَا يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ مِنْ الْأَغْنَامِ الْحَادِثَةِ شَيْءٌ، وَمَتَى كَانَ الْمُوصَى بِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَهُوَ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ يُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ يَوْمَ مَوْتِ الْمُوصِي، فَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلَهُ مَالٌ فَهَلَكَ ذَلِكَ الْمَالُ وَاكْتَسَبَ مَالًا غَيْرَهُ فَإِنَّ ثُلُثَ مَالِهِ الَّذِي اكْتَسَبَهُ لِلْمُوصَى لَهُ وَلَمْ تَتَعَلَّقْ الْوَصِيَّةُ بِالْمَالِ الْمَوْجُودِ يَوْمَ الْوَصِيَّةِ حَتَّى لَا تَبْطُلَ بِهَلَاكِهِ اهـ.
فَقَدْ ظَهَرَ لَك بِذَلِكَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ لِصِحَّةِ الْإِيجَابِ فِي أَكْثَرِ أَقْسَامِ الْوَصَايَا وُجُودُ الْمُوصَى بِهِ وَقْتَ الْوَصِيَّةِ لَا وَقْتَ الْمَوْتِ، فَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ بِاتِّفَاقِ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ لِصِحَّتِهَا وُجُودُهُمَا: أَيْ وُجُودُ الْمُوصَى لَهُ وَبِهِ وَقْتَ الْمَوْتِ فَقَطْ لَا وَقْتَ الْوَصِيَّةِ أَيْضًا، وَقَوْلُهُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا إذْ ذَاكَ دُونَ وَقْتِ الْإِيجَابِ لَيْسَ بِتَامٍّ، لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ الْوَصِيَّةُ فَيَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ وُجُودُهُمَا وَقْتَ وُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ وُجُودُهُمَا وَقْتَ تَحَقُّقِ الْحُكْمِ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَمِنْ هَذَا مَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْمَشَايِخِ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، وَقَوْلُهُ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ، وَسَيَجِيءُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَوْصَيْت لِفُلَانٍ بِثُلُثِ مَالِي وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا كَانَ لِلْمُوصَى لَهُ ثُلُثُ مَا تَرَكَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ الْمُعْتَبَرِ وَقْتَ الْمَوْتِ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُوصَى بِهِ غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَهُوَ شَائِعٌ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ كَمَا هُوَ الْحَالُ فِي قَوْلِهِ أَوْصَيْت بِثُلُثِ مَالِي لِفُلَانٍ لَا فِيمَا إذَا كَانَ الْمُوصَى بِهِ مُعَيَّنًا كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَغَيْرُهُ فِي شَرْحِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي سَتَجِيءُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute