بَيْنَ الْكُلِّ بِمَا قُلْنَاهُ لِاتِّحَادِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَا مِائَةٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَلِآخَرَ بِمِائَتَيْنِ ثُمَّ كَانَ الْإِشْرَاكُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْكُلِّ لِتَفَاوُتِ الْمَالَيْنِ فَحَمَلْنَاهُ عَلَى مُسَاوَاتِهِ كُلَّ وَاحِدٍ بِتَنْصِيفِ نَصِيبِهِ عَمَلًا بِاللَّفْظِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ.
قَالَ (وَمَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَيْنٌ فَصَدَّقُوهُ) مَعْنَاهُ قَالَ ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ (فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ إلَى الثُّلُثِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمَجْهُولِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِهِ إلَّا بِالْبَيَانِ وَقَوْلُهُ فَصَدَّقُوهُ صَدَرَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُهُ إقْرَارًا مُطْلَقًا فَلَا يُعْتَبَرُ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مِنْ قَصْدِهِ تَقْدِيمَهُ عَلَى الْوَرَثَةِ وَقَدْ أَمْكَنَ تَنْفِيذُ قَصْدِهِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَنْ يَعْلَمُ بِأَصْلِ الْحَقِّ عَلَيْهِ دُونَ مِقْدَارِهِ سَعْيًا مِنْهُ فِي تَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ فَيَجْعَلُهَا وَصِيَّةً جَعَلَ التَّقْدِيرَ فِيهَا إلَى الْمُوصَى لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ إذَا جَاءَكُمْ فُلَانٌ وَادَّعَى شَيْئًا فَأَعْطُوهُ مِنْ مَالِي مَا شَاءَ، وَهَذِهِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ الثُّلُثِ فَلِهَذَا يُصَدَّقُ عَلَى الثُّلُثِ دُونَ الزِّيَادَةِ. قَالَ (وَإِنْ أَوْصَى بِوَصَايَا غَيْرِ ذَلِكَ يُعْزَلُ الثُّلُثُ لِأَصْحَابِ الْوَصَايَا وَالثُّلُثَانِ لِلْوَرَثَةِ) لِأَنَّ مِيرَاثَهُمْ مَعْلُومٌ. وَكَذَا الْوَصَايَا مَعْلُومَةٌ وَهَذَا مَجْهُولٌ فَلَا يُزَاحِمُ الْمَعْلُومَ فَيُقَدَّمُ عَزْلُ الْمَعْلُومِ، وَفِي الْإِفْرَازِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ قَدْ يَكُونُ أَعْلَمَ بِمِقْدَارِ هَذَا الْحَقِّ وَأَبْصَرَ بِهِ، وَالْآخَرُ أَلَدُّ
لَهُ نِصْفُ كُلِّ مِائَةٍ لِأَنَّ لَفْظَ الْإِشْرَاكِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ﴾ وَقَدْ أَشْرَكَ الثَّالِثَ فِيمَا يُوصِي بِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِائَةِ وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِصْفُ كُلِّ مِائَةٍ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَثْبَتَ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمْ وَهِيَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْمُسَاوَاةُ إذَا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثَ الْمِائَةِ، أَمَّا إذَا أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْمِائَةِ حَصَلَ لَهُ مِائَةٌ فَلَا يَثْبُتُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمْ، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّهُ أَشْرَكَهُ مَعَهُمَا جُمْلَةً وَاحِدَةً فَلَا يُعْتَبَرُ بِإِشْرَاكِهِ إيَّاهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَفَرِّقًا انْتَهَى. وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ. أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لِلْمُسَاوَاةِ لُغَةً كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فَيَقْتَضِي لَفْظُ الْإِشْرَاكِ التَّسْوِيَةَ بِلَا رَيْبٍ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُوصِي لِلثَّالِثِ قَدْ أَشْرَكْتُك مَعَهُمَا إشْرَاكَهُ مَعَهُمَا جُمْلَةً وَاحِدَةً أَيْ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْكُلِّ لَا إشْرَاكَهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا: أَيْ تَسْوِيَتَهُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ بِنِصْفِ نَصِيبِهِ بِعَيْنِهِ فَلَا مَعْنَى لِوَجْهِ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ هُوَ الثَّانِيَ فَلَا مَعْنَى لِوَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ الْمَذْكُورِ. وَبِالْجُمْلَةِ مَا ذَكَرَهُ الشَّارِحَانِ الْمَزْبُورَانِ مِنْ وَجْهَيْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ مَعْنَيَانِ مُتَضَادَّانِ لَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحِلٍّ وَاحِدٍ، فَمَعْنَى كَلَامِ الْمُوصِي لُغَةً وَعُرْفًا أَحَدُهُمَا لَا غَيْرُ فَلَمْ يَصْلُحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لِلْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ عَلَى مَا ذَكَرَاهُ، وَعَنْ هَذَا لَمْ أَرَ أَحَدًا ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سِوَى ذَيْنِك الشَّارِحَيْنِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُوَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْكُلِّ هُوَ الْمَعْنَى فِيمَا أَمْكَنَ تَحَقُّقُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْكُلِّ، وَإِلَّا يُحْمَلُ عَلَى الْمُسَاوَاةِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ بِنِصْفِ نَصِيبِهِ عَمَلًا بِاللَّفْظِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَبِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ كَمَا تَرَى وَلَا غُبَارَ فِيهِ
(قَوْلُهُ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصْدُقُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمَجْهُولِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لَكِنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِهِ إلَّا بِالْبَيَانِ) يَعْنِي لَا يُحْكَمُ بِهِ إلَّا إذَا قُرِنَ بِبَيَانٍ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ وَقَدْ فَاتَ بِمَوْتِهِ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَغَيْرِهَا. أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ لَا يَنُوبُ عَنْهُ الْوَرَثَةُ فِي الْبَيَانِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْمَجْهُولِ، مِثْلُ إنْ أَوْصَى بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّهُ يُقَالُ هُنَاكَ لِلْوَرَثَةِ أَعْطُوا مَا شِئْتُمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَجْهُولٌ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ وَالْوَرَثَةُ قَائِمُونَ مَقَامَ الْمُوصِي فَإِلَيْهِمْ الْبَيَانُ كَمَا مَرَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute