قَالَ (الْمُدَّعِي مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ إذَا تَرَكَهَا وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ)
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ بَعْدَ بَيَانِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيِّ وَالشَّرْعِيِّ عَلَى وَجْهِ الْبَسْطِ وَالتَّفْصِيلِ: وَأَمَّا سَبَبُهَا فَمَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي النِّكَاحِ وَالْبُيُوعِ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ أَمْرًا رَاجِعًا إلَى إبْقَاءِ نَسْلِهِ أَوْ أَمْرًا رَاجِعًا إلَى بَقَاءِ نَفْسِهِ وَمَا يَتْبَعُهُمَا، وَكِلَاهُمَا قَدْ ذُكِرَا، وَأَمَّا شَرْطُ صِحَّتِهَا عَلَى الْخُصُوصِ فَمَجْلِسُ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا تَصِحُّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَجْلِسِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ جَوَابُ الْمُدَّعِي.
وَمِنْ شَرَائِطِ صِحَّتِهَا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ دَعْوَى الْمُدَّعِي عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ شَيْئًا مَعْلُومًا، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ لِمَا أَنَّ الْفَاسِدَةَ مِنْ الدَّعْوَى هِيَ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَصْمُ حَاضِرًا وَأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ مَجْهُولًا، لِأَنَّ عِنْدَ الْجَهَالَةِ لَا يُمْكِنُ لِلشُّهُودِ الشَّهَادَةُ وَلَا لِلْقَاضِي الْقَضَاءُ بِهِ، وَأَنْ لَا يَلْزَمَ عَلَى الْمَطْلُوبِ شَيْءٌ بِدَعْوَاهُ نَحْوُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ وَكِيلُ هَذَا الْخَصْمِ الْحَاضِرِ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِهِ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْمَعُ دَعْوَاهُ هَذِهِ إذَا أَنْكَرَ آخَرُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ عَزْلُهُ فِي الْحَالِ. وَأَمَّا حُكْمُهَا فَوُجُوبُ الْجَوَابِ عَلَى الْخَصْمِ بِنَعَمْ أَوْ بِلَا، وَلِهَذَا وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي إحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْحُكْمِ حَتَّى يُوفِيَ مَا اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ مِنْ الْجَوَابِ. وَأَمَّا أَنْوَاعُهَا فَشَيْئَانِ: دَعْوَى صَحِيحَةٌ، وَدَعْوَى فَاسِدَةٌ.
فَالصَّحِيحَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامُهَا وَهِيَ إحْضَارُ الْخَصْمِ وَالْمُطَالَبَةُ بِالْجَوَابِ وَالْيَمِينِ إذَا أَنْكَرَ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَى يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمُدَّعَى بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالنُّكُولِ، وَالدَّعْوَى الْفَاسِدَةُ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا هَذِهِ الْأَحْكَامُ، وَفَسَادُ الدَّعْوَى بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُلْزِمًا لِلْخَصْمِ شَيْئًا وَإِنْ ثَبَتَتْ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ وَكِيلُهُ. وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا فِي نَفْسِهِ وَالْمَجْهُولُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ لَا بِالْبَيِّنَةِ وَلَا بِالنُّكُولِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي تَحْرِيرِهِ نَوْعُ اخْتِلَالٍ وَاضْطِرَابٍ. فَإِنَّ قَوْلَهُ وَأَمَّا شَرْطُ صِحَّتِهَا عَلَى الْخُصُوصِ إلَى قَوْلِهِ وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِصِحَّتِهَا شُرُوطًا أَرْبَعَةً: وَهِيَ مَجْلِسُ الْقَضَاءِ، وَحُضُورُ الْخَصْمِ، وَكَوْنُ الْمُدَّعَى بِهِ شَيْئًا مَعْلُومًا وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ.
وَيَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ فَسَادُهَا بِأَحَدِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ وَهِيَ: انْتِفَاءَاتُ هَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ لِمَا أَنَّ الْفَاسِدَةَ مِنْ الدَّعْوَى هِيَ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَصْمُ حَاضِرًا إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ عَزْلُهُ فِي الْحَالِ يُشْعِرُ بِأَنَّ فَسَادَهَا إنَّمَا هُوَ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ، وَهِيَ عَدَمُ حُضُورِ الْخَصْمِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ مَجْهُولًا، وَأَنْ لَا يَلْزَمَ عَلَى الْمَطْلُوبِ شَيْءٌ بِالدَّعْوَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُعَرَّفَ فَاللَّامُ الْجِنْسِ إذَا جُعِلَ مُبْتَدَأً كَمَا فِي قَوْلِهِ إنَّ الْفَاسِدَةَ مِنْ الدَّعْوَى فَهُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْخَبَرِ نَحْوُ: الْكَرَمُ التَّقْوَى. وَالْإِمَامُ مِنْ قُرَيْشٍ.
عَلَى مَا عُرِفَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ وَفَسَادُ الدَّعْوَى بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إلَخْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَسَادَهَا بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ لَا غَيْرُ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْمَصْدَرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ وَفَسَادُ الدَّعْوَى تُفِيدُ الْقَصْدَ نَحْوُ ضَرْبِي زَيْدًا فِي الدَّارِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ وَأَمَّا أَنْوَاعُهَا فَشَيْئَانِ لَا يَخْلُو عَنْ سَمَاجَةٍ ظَاهِرَةٍ حَيْثُ حَمَلَ التَّثْنِيَةَ عَلَى الْجَمْعِ بِالْمُوَاطَأَةِ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (الْمُدَّعِي مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ إذَا تَرَكَهَا، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ) وَرَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْإِصْلَاحِ وَالْإِيضَاحِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute