للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَمَعْرِفَةُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مِنْ أَهَمِّ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ الدَّعْوَى، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ فِيهِ، فَمِنْهَا مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ حَدٌّ عَامٌّ صَحِيحٌ. وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْخَارِجِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ كَذِي الْيَدِ

حَيْثُ قَالَ فِي مَتْنِهِ: الْمُدَّعِي مَنْ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ، وَقَالَ فِي شَرْحِهِ لَمْ يَقُلْ إذَا تَرَكَهَا كَمَا قَالَ الْقُدُورِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ حَالَتَيْ التَّرْكِ وَالْفِعْلِ، وَالْقَيْدُ الْمَذْكُورُ يُوهِمُ الِاخْتِصَاصَ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ إذْ عَلَى تَقْدِيرِ تَرْكِ قِيلَ التَّرْكُ يَلْزَمُ أَنْ يُنْتَقَضَ تَعْرِيفُ الْمُدَّعِي بِالْمُدَّعَى عَلَيْهِ حَالَةَ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ ضَرُورَةَ عَدَمِ تَصَوُّرِ الْجَبْرِ عَلَى الْفِعْلِ حَالَةَ حُصُولِهِ، وَأَمَّا إيهَامُ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ الِاخْتِصَاصَ فَمَمْنُوعٌ لِانْدِفَاعِهِ بِشَهَادَةِ ضَرُورَةِ الْعَقْلِ عَلَى عَدَمِ تَصَوُّرِ الْجَبْرِ حَالَةَ الْفِعْلِ (وَمَعْرِفَةُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ (مِنْ أَهَمِّ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ مَسَائِلُ الدَّعْوَى) فَإِنَّ النَّبِيَّ قَالَ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَالْإِنْسَانُ قَدْ يَكُونُ مُدَّعِيًا صُورَةً وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا فِي الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِمَا (وَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ فِيهِ) أَيْ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا (فَمِنْهَا مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ) يَعْنِي مُخْتَصَرَ الْقُدُورِيِّ (وَهُوَ حَدٌّ عَامٌّ صَحِيحٌ، وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ) وَهِيَ الْبَيِّنَةُ أَوْ الْإِقْرَارُ أَوْ النُّكُولُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ كَمَا سَيُعْلَمُ فِي بَابِ الْيَمِينِ (كَالْخَارِجِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ كَذِي الْيَدِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَهُوَ لَيْسَ بِعَامٍّ: أَيْ جَامِعٍ لِعَدَمِ تَنَاوُلِهِ صُورَةَ الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ انْتَهَى.

أَقُولُ: يُمْكِنُ تَوْضِيحُ كَلَامِهِ وَتَقْرِيرُ مَرَامِهِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُقْبَلُ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ قَوْلُ الْمُودَعِ مَعَ يَمِينِهِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْمُودَعَ فِي تِلْكَ الصُّورَةِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِحُجَّةٍ. ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ الْوَجْهَيْنِ مَعًا أَنَّهُ سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ، فَلِهَذَا أَنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ مَعَ الْيَمِينِ، وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَدَارُ التَّعْرِيفِ الْمَذْكُورِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرِ دُونَ الصُّورَةِ، فَحِينَئِذٍ لَا ضَيْرَ فِي عَدَمِ تَنَاوُلِ تَعْرِيفِ الْمُدَّعِي صُورَةَ الْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ لِعَدَمِ كَوْنِهِ مُدَّعِيًا حَقِيقَةً أَوْ مَعْنًى. وَيُمْكِنُ جَوَابٌ آخَرُ عَنْ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُودَعَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعٍ رَدَّ الْوَدِيعَةِ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ، وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُهُ بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَبِالْجُمْلَةِ قَيْدُ الْحَيْثِيَّةِ مُعْتَبَرٌ.

وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ: وَلَعَلَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَدْفَعُ اسْتِحْقَاقَ غَيْرِهِ انْتَهَى. أَقُولُ: وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَيْضًا بِأَنَّ دَفْعَ اسْتِحْقَاقِ غَيْرِهِ لَا يُنَافِي اسْتِحْقَاقَ نَفْسِهِ، بَلْ يَقْتَضِيهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْمُسْتَحِقِّ، فَكَوْنُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَدْفَعُ اسْتِحْقَاقَ غَيْرِهِ لَا يُنَافِي صِحَّةَ تَعْرِيفِهِ بِمَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ، وَعَنْ هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي وَصَاحِبُ الْكِفَايَةِ فِي بَيَانِ تَعْرِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ، فَإِنَّهُ إذَا قَالَ هُوَ لِي كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ مَا لَمْ يُثْبِتْ الْغَيْرُ اسْتِحْقَاقَهُ. فَإِنْ قُلْت: صِيغَةُ الْفِعْلِ تُفِيدُ التَّجَدُّدَ وَالْحُدُوثَ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ فَيَكُونُ مَعْنَى

<<  <  ج: ص:  >  >>