وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ يَتَمَسَّكُ بِغَيْرِ الظَّاهِرِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ
مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مَنْ يَتَجَدَّدُ وَيَحْدُثُ اسْتِحْقَاقُهُ بِقَوْلِهِ مَعَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَتَجَدَّدُ وَلَا يَحْدُثُ بِقَوْلِهِ بَلْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّعْوَى.
قُلْت: هَذِهِ مُنَاقَشَةٌ لَفْظِيَّةٌ يُمْكِنُ دَفْعُهَا أَيْضًا بِأَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِمَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مَنْ يَكُونُ ثَابِتًا عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ بِقَوْلِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا مَجَازًا ثَابِتًا عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ كَذِي الْيَدِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ ثَبِّتْنَا عَلَى هُدَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَاَلَّذِي يَلْزَمُ حِينَئِذٍ مِنْ صِيغَةِ الْفِعْلِ فِي تَعْرِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ذُكِرَ أَنْ يَتَجَدَّدَ الثَّبَاتُ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ لَا أَنْ يَتَجَدَّدَ نَفْسُ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَا مَحْذُورَ فِيهِ. وَأَجَابَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَمَّا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ قَالَ: قَدْ مَرَّ فِي الدَّرْسِ السَّابِقِ أَنَّ لِدَوَامِ الْأُمُورِ الْمُسْتَمِرَّةِ الْغَيْرِ اللَّازِمَةِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ، مَعَ أَنَّ فِي الْعُدُولِ مِنْ أَنْ يَقُولَ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِقَوْلِهِ إلَى قَوْلِهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ إيمَاءً إلَى دَفْعِ هَذَا الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ يَكُونُ اسْتِحْقَاقُهُ دَائِمًا لِدَلَالَةِ الِاسْمِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ اهـ.
أَقُولُ: فِي كُلٍّ مِنْ شِقَّيْ جَوَابِهِ نَظَرٌ: أَمَّا فِي شِقِّهِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ لِدَوَامِ التَّصَرُّفَاتِ الْغَيْرِ اللَّازِمَةِ حُكْمَ الِابْتِدَاءِ عَلَى مَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ السَّابِقِ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ فَتَأَمَّلْ. وَأَمَّا فِي شِقِّهِ الثَّانِي لَا يَذْهَبُ عَلَى مَنْ لَهُ دُرْبَةٌ بِالْعُلُومِ الْأَدَبِيَّةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِقَوْلِهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ فِي إفَادَةِ التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ، لِأَنَّ صِلَةَ مَنْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ فَتَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ قَطْعًا، وَكَوْنُ الْخَبَرِ اسْمًا فِي الثَّانِيَةِ مِمَّا لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إفَادَةِ الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ أَصْلًا، عَلَى أَنَّ الثِّقَاتِ مِنْ مُحَقِّقِي النُّحَاةِ كَالرَّضِيِّ وَأَضْرَابِهِ صَرَّحُوا بِأَنَّ ثُبُوتَ خَبَرِ بَابِ كَانَ مُقْتَرِنٌ بِالزَّمَانِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ الْفِعْلِ النَّاقِصِ، إمَّا مَاضِيًا أَوْ حَالًا أَوْ اسْتِقْبَالًا، فَكَانَ لِلْمَاضِي وَيَكُونُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ وَكُنْ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَقَالَ الْفَاضِلُ الرَّضِيُّ: وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ كَانَ يَدُلُّ عَلَى اسْتِمْرَارِ مَضْمُونِ الْخَبَرِ فِي جَمِيعِ الزَّمَنِ الْمَاضِي، وَشُبْهَتُهُ قَوْله تَعَالَى ﴿وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ وَذَهِلَ أَنَّ الِاسْتِمْرَارَ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَرِينَةِ وُجُوبِ كَوْنِ اللَّهِ سَمِيعًا بَصِيرًا لَا مِنْ لَفْظِ كَانَ؛ أَلَا يَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ كَانَ زَيْدٌ نَائِمًا فَاسْتَيْقَظَ، وَكَانَ قِيَاسُ مَا قَالَ أَنْ يَكُونَ كُنْ وَيَكُونُ لِلِاسْتِمْرَارِ أَيْضًا.
وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فَكَانَ تَكُونُ نَاقِصَةً لِثُبُوتِ خَبَرِهَا دَائِمًا أَوْ مُنْقَطِعًا رَدٌّ عَلَى ذَلِكَ الْقَائِلِ يَعْنِي أَنَّهُ يَجِيءُ دَائِمًا كَمَا فِي الْآيَةِ، وَمُنْقَطِعًا كَمَا فِي قَوْلِك كَانَ زَيْدٌ قَائِمًا، وَلَمْ يَدُلَّ لَفْظُ كَانَ عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بَلْ ذَلِكَ إلَى الْقَرِينَةِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ. فَقَدْ تَقَرَّرَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا دَوَامَ فِي مَضْمُونِ خَبَرِ كَانَ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْبَعْضُ ذُهُولًا. وَأَمَّا الدَّوَامُ فِي خَبَرِ يَكُونُ الَّذِي كَلَامُنَا فِيهِ فَمِمَّا لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أَحَدٌ قَطُّ، فَمَا ذَكَرَهُ ذَلِكَ الْمُجِيبُ خَارِجٌ عَنْ قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، نَعَمْ لَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي التَّعْرِيفِ مَنْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ بِقَوْلِهِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لَتَمَّ الْفَرْقُ وَلَيْسَ فَلَيْسَ (وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ يَتَمَسَّكُ بِغَيْرِ الظَّاهِرِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلَعَلَّهُ مَنْقُوضٌ بِالْمُودَعِ فَإِنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بِمُتَمَسِّكٍ بِالظَّاهِرِ إذْ رَدُّ الْوَدِيعَةِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْفَرَاغَ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَعْدَ الِاشْتِغَالِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا ادَّعَى الْمَدْيُونُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَى وَكِيلِ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ يُنْكِرُ الْوَكَالَةَ فَالْقَوْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ يَدَّعِي بَرَاءَةً بَعْدَ الشُّغْلِ فَكَانَتْ عَارِضَةً، وَالشُّغْلُ أَصْلٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُورِدَ بِالْعَكْسِ بِأَنَّهُ مُدَّعٍ وَيَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ وَهُوَ عَدَمُ الضَّمَانِ اهـ.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُودَعَ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute