وَقَالَ مُحَمَّدٌ ﵀ فِي الْأَصْلِ: الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُنْكِرُ، وَهَذَا صَحِيحٌ لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَعْرِفَتِهِ وَالتَّرْجِيحُ بِالْفِقْهِ عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا ﵏ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ، فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ.
لَيْسَ هُوَ بِمُتَمَسِّكٍ بِالظَّاهِرِ. قَوْلُهُ إذْ رَدُّ الْوَدِيعَةِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ. قُلْنَا: مُسَلَّمٌ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ تَمَسُّكَهُ بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ مُتَمَسِّكٌ بِعَدَمِ الضَّمَانِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَكَذَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُدَّعٍ يَتَمَسَّكُ بِالظَّاهِرِ بَلْ هُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ مُلْتَمِسٌ غَيْرَ الظَّاهِرِ وَهُوَ رَدُّ الْوَدِيعَةِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ زَعَمَ حَيْثِيَّةَ كَوْنِ الْمُودَعِ مُدَّعِيًا حَيْثِيَّةَ كَوْنِهِ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَبِالْعَكْسِ فَأَوْرَدَ النَّقْضَ عَلَى تَعْرِيفِهِمَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ، كَيْفَ وَلَوْ تَمَّ مَا زَعَمَهُ لَوْ رُدَّ النَّقْضُ بِالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ أَيْضًا بِأَنَّهُ مُدَّعٍ رَدَّ الْوَدِيعَةِ وَيُجْبَرُ عَلَى الْخُصُومَةِ مَعَ أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ حَدٌّ عَامٌّ صَحِيحٌ.
ثُمَّ إنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ كُلَّهُ عَلَى تَسْلِيمِ اعْتِبَارِ جَانِبِ الصُّورَةِ أَيْضًا فِيمَا إذَا ادَّعَى الْمُودَعُ رَدَّ الْوَدِيعَةِ، وَأَمَّا عَلَى تَقْدِيرِ إنْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ جَانِبُ الْمَعْنَى دُونَ جَانِبِ الصُّورَةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَسَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ فَلَا يَتَوَجَّهُ النَّقْضُ بِالْعَكْسِ أَصْلًا. وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى بَعْضِ مُقَدِّمَاتِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا حَيْثُ قَالَ: فِيهِ كَلَامٌ، وَهُوَ أَنَّ فِي صُورَةِ الْوَدِيعَةِ لَيْسَ فِي ذِمَّةِ الْمُودَعِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ دَعْوَى الرَّدِّ مِنْهُ دَعْوَى الْبَرَاءَةِ بَعْدَ الشُّغْلِ، بَلْ إنَّمَا هِيَ مُجَرَّدُ إنْكَارِ الضَّمَانِ وَثُبُوتُ الشَّيْءِ فِي ذِمَّتِهِ، بِخِلَافِ صُورَةِ الدَّيْنِ، وَأُشِيرَ إلَى هَذَا فِي الْكَافِي اهـ. أَقُولُ: نَعَمْ قَدْ أُشِيرَ إلَيْهِ، بَلْ صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَعَامَّةِ الشُّرُوحِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ صَاحِبَ الْعِنَايَةِ رَآهُ وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ بَعْدَ ذَلِكَ لَهُ أَنْ يَقُولَ سَلَّمْنَا أَنَّ فِي صُورَةِ الْوَدِيعَةِ لَيْسَ فِي ذِمَّةِ الْمُودَعِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ، وَلَكِنْ فِي عُهْدَتِهِ حِفْظُ مَالِ الْوَدِيعَةِ، إذْ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ أَنَّهَا عَقْدُ اسْتِحْفَاظٍ، وَأَنَّ حُكْمَهَا وُجُوبُ الْحِفْظِ عَلَى الْمُودَعِ فَكَانَ دَعْوَى الرَّدِّ مِنْهُ دَعْوَى الْبَرَاءَةِ بَعْدَ اشْتِغَالِ ذِمَّتِهِ بِالْحِفْظِ، وَالْفَرَاغُ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَعْدَ الِاشْتِغَالِ فَيَتَمَشَّى كَلَامُهُ، وَيَتِمُّ مَرَامُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا ادَّعَى الْمَدْيُونُ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَخْ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى مُجَرَّدِ الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ فِي كَوْنِ الْفَرَاغِ لَيْسَ بِأَصْلٍ بَعْدَ الِاشْتِغَالِ، وَإِنْ كَانَتَا مُخْتَلِفَتَيْنِ بِكَوْنِ الِاشْتِغَالِ فِي إحْدَاهُمَا بِالْمَالِ وَفِي الْأُخْرَى بِالْحِفْظِ، فَاَلَّذِي يَقْطَعُ عِرْقَ إيرَادِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ هَاهُنَا مَا قَدَّمْنَاهُ لَا غَيْرُ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ ﵀: فِي الْأَصْلِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُنْكِرُ، وَهَذَا صَحِيحٌ) لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ «وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» وَرُوِيَ «الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» (لَكِنَّ الشَّأْنَ فِي مَعْرِفَتِهِ) أَيْ مَعْرِفَةِ الْمُنْكِرِ (وَالتَّرْجِيحِ بِالْفِقْهِ) أَيْ بِالْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ (عِنْدَ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا ﵏ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْمَعَانِي دُونَ الصُّوَرِ فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَإِنْ كَانَ مُدَّعِيًا لِلرَّدِّ صُورَةً لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ الْيَمِينِ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: يَعْنِي إذَا تَعَارَضَ الْجِهَتَانِ فِي صُورَةٍ فَالتَّرْجِيحُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى يَكُونُ بِالْفِقْهِ: أَيْ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ، فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ فَهُوَ يَدَّعِي الرَّدَّ صُورَةً، فَلَوْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قُبِلَتْ، وَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ أَيْضًا فَكَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ، فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ اعْتَبَرَ الصُّورَةَ، وَإِذَا عَجَزَ عَنْهَا اعْتَبَرَ مَعْنَاهَا، فَإِنَّهُ يُنْكِرُ الضَّمَانَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ اهـ. أَقُولُ: شَرْحُ هَذَا الْمَقَامِ بِهَذَا الْوَجْهِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمَشْرُوحِ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَالتَّرْجِيحُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute