لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّعْرِيفُ بِالْإِشَارَةِ لِتَعَذُّرِ النَّقْلِ فَيُصَارُ إلَى التَّجْدِيدِ فَإِنَّ الْعَقَارَ يُعْرَفُ بِهِ، وَيَذْكُرُ الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ، وَيَذْكُرُ أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْحُدُودِ وَأَنْسَابَهُمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجَدِّ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عُرِفَ هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مَشْهُورًا يَكْتَفِي بِذِكْرِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ ثَلَاثَةً مِنْ الْحُدُودِ يُكْتَفَى بِهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَلِطَ فِي الرَّابِعَةِ لِأَنَّهُ يُخْتَلَفُ بِهِ الْمُدَّعَى وَلَا كَذَلِكَ بِتَرْكِهَا، وَكَمَا يُشْتَرَطُ التَّحْدِيدُ فِي الدَّعْوَى يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ.
وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ وَذَكَرَ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا إذَا كَانَ فِي يَدِهِ، وَفِي الْعَقَارِ لَا يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْمُدَّعِي وَتَصْدِيقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ بَلْ لَا تَثْبُتُ الْيَدُ فِيهِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ
وَقَاسَهُ عَلَى النَّسَبِ حَيْثُ يَقُولُ فُلَانٌ ثُمَّ يَقُولُ ابْنُ فُلَانٍ ثُمَّ يَذْكُرُ الْجَدَّ. فَيَبْدَأُ بِمَا هُوَ الْأَقْرَبُ ثُمَّ يَتَرَقَّى إلَى الْأَبْعَدِ. قَالَ: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفُصُولَيْنِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذَا الِاخْتِلَافِ مَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَحْسَنُ، لِأَنَّ الْعَامَّ يُعْرَفُ بِالْخَاصِّ وَلَا يُعْرَفُ الْخَاصُّ بِالْعَامِّ وَفَصْلُ النَّسَبِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَعَمَّ اسْمُهُ، فَإِنَّ جَعْفَرًا فِي الدُّنْيَا كَثِيرٌ، فَإِنْ عُرِفَ فِيهَا وَإِلَّا تَرَقَّى إلَى الْأَخَصِّ فَيَقُولُ ابْنُ مُحَمَّدٍ وَهَذَا أَخَصُّ، فَإِنْ عُرِفَ فِيهَا وَإِلَّا تَرَقَّى إلَى الْجَدِّ انْتَهَى. وَقَالَ فِي الْمُحِيطِ: اخْتَلَفَ أَهْلُ الشُّرُوطِ فِي الْبُدَاءَةِ بِالْأَعَمِّ أَوْ بِالْأَخَصِّ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْخِيَارِ فِي الْبُدَاءَةِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ انْتَهَى. وَقَالَ عِمَادُ الدِّينِ فِي فُصُولِهِ: قُلْت اخْتِلَافَاتُ أَهْلِ الشُّرُوطِ أَنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ الْأَعَمِّ إلَى الْأَخَصِّ، أَوْ مِنْ الْأَخَصِّ إلَى الْأَعَمِّ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى شَرْطِيَّةِ الْبَيَانِ انْتَهَى.
فَقَدْ تَلَخَّصَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ كُلِّهِ أَنَّ ذِكْرَ الْحُدُودِ لَيْسَ بِكَافٍ فِي تَعْرِيفِ الْعَقَارِ، بَلْ لَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ ذِكْرِ الْبَلْدَةِ وَالْمَحَلَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا قُرِّرَ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ لُزُومِ التَّحْدِيدِ فِي دَعْوَى الْعَقَارِ (لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّعْرِيفُ بِالْإِشَارَةِ لِتَعَذُّرِ النَّقْلِ) أَيْ نَقْلِ الْعَقَارِ (فَيُصَارُ إلَى التَّحْدِيدِ، فَإِنَّ الْعَقَارَ يُعْرَفُ بِهِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ تَعَذَّرَ النَّقْلِ لَا يَقْتَضِي تَعَذُّرَ التَّعْرِيفِ بِالْإِشَارَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ الْقَاضِي عِنْدَ الْعَقَارِ أَوْ يَبْعَثَ أَمِينَهُ إلَيْهِ فَيُشِيرَ الْمُدَّعَى إلَيْهِ فِي مَحْضَرِ الْقَاضِي أَوْ أَمِينِهِ بِعَيْنِ مَا قَالُوا فِي الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ نَقْلُهَا كَالرَّحَى وَنَحْوِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَرَّ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَدْفَعَ بِأَنَّ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يُتَعَذَّرُ نَقْلُهَا نَادِرَةٌ فَالْتُزِمَ فِيهَا حُضُورُ الْقَاضِي أَوْ أَمِينِهِ عِنْدَهَا لِعَدَمِ تَأَدِّيهِ إلَى الْحَرَجِ، بِخِلَافِ الْعَقَارَاتِ فَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ، فَلَوْ كُلِّفَ الْقَاضِي بِحُضُورِهِ عِنْدَهَا أَوْ بَعَثَ أَمِينَهُ إلَيْهَا لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ فَافْتَرَقَا (وَيَذْكُرُ الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ وَيَذْكُرُ أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْحُدُودِ وَأَنْسَابَهُمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْجَدِّ لِأَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا عُرِفَ هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّ ذِكْرَ الْأَبِ يَكْفِي (وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مَشْهُورًا) مِثْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى (يَكْتَفِي بِذِكْرِهِ) يَعْنِي لَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْأَبِ وَالْجَدِّ حِينَئِذٍ لِحُصُولِ التَّعْرِيفِ بِالِاسْمِ بِلَا ذِكْرِ النَّسَبِ. وَفِي الدَّارِ لَا بُدَّ مِنْ التَّحْدِيدِ وَإِنْ كَانَتْ مَشْهُورَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ لِأَنَّ الشُّهْرَةَ مُغْنِيَةٌ عَنْهُ، وَلَهُ إنْ قَدَّرَهَا لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالتَّحْدِيدِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ (فَإِنْ ذَكَرَ ثَلَاثَةً مِنْ الْحُدُودِ يَكْتَفِي بِهَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ لِوُجُودِ الْأَكْثَرِ) دَلِيلٌ لَنَا: يَعْنِي أَنَّ إقَامَةَ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فَنَعْمَلُ بِهِ هَاهُنَا أَيْضًا (بِخِلَافِ مَا إذَا غَلِطَ فِي الرَّابِعَةِ) أَيْ فِي الْحَدِّ الرَّابِعِ وَأَنَّثَهُ الْمُصَنِّفُ بِاعْتِبَارِ الْجِهَةِ يَعْنِي إذَا ذَكَرَ الْحُدُودَ الثَّلَاثَةَ وَسَكَتَ عَنْ الرَّابِعِ جَازَ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ.
وَأَمَّا إذَا ذَكَرَ الْحَدَّ الرَّابِعَ أَيْضًا وَغَلِطَ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ (لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِهِ) أَيْ بِالْغَلَطِ (الْمُدَّعِي وَلَا كَذَلِكَ بِتَرْكِهَا) وَنَظِيرُ مَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَتَرَكَا ذِكْرَ الثَّمَنِ جَازَ، وَلَوْ غَلِطَا فِي الثَّمَنِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُ صَارَ عَقْدًا آخَرَ بِالْغَلَطِ، وَبِهَذَا الْفَرْقِ بَطَلَ قِيَاسُ زُفَرَ التَّرْكَ عَلَى الْغَلَطِ (وَكَمَا يُشْتَرَطُ التَّحْدِيدُ فِي الدَّعْوَى يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ) فَيَجْرِي فِي الثَّانِيَةِ مَا يَجْرِي فِي الْأُولَى (وَقَوْلُهُ فِي الْكِتَابِ) أَيْ قَوْلُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَذَكَرَ أَنَّهُ) يَعْنِي الْعَقَارَ (فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ لِأَنَّهُ) أَيْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (إنَّمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا) أَيْ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ (إذَا كَانَ فِي يَدِهِ) أَيْ إذَا كَانَ الْمُدَّعَى فِي يَدِهِ (وَفِي الْعَقَارِ لَا يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْمُدَّعِي وَتَصْدِيقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ) أَيْ الْعَقَارَ (فِي يَدِهِ بَلْ لَا تَثْبُتُ الْيَدُ فِيهِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ) بِأَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُمْ عَايَنُوا أَنَّ ذَلِكَ الْعَقَارَ الْمُدَّعَى فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ قَالُوا سَمِعْنَا إقْرَارَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ فِي يَدِهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، وَكَذَا الْحَالُ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَقَدْ لَا يُفَرِّقُ الشُّهُودُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَهُمْ الْقَاضِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute