للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَالَ (وَإِنْ ادَّعَى عَقَارًا حَدَّدَهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ)

قَالُوا: إنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الدَّعْوَى كَوْنَ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا، وَعَلَّلُوهُ بِعَدَمِ إمْكَانِ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ، لَا يُقَالُ: الْقَاضِي يُجْبِرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِبَيَانِ قِيمَةِ مَا ادَّعَى عَلَيْهِ فَيَحْكُمُ عَلَيْهِ بِمَا بَيَّنَ فَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ. لِأَنَّا نَقُولُ: الْجَبْرُ عَلَيْهِ إنَّمَا يَصِحُّ لَوْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَى عَلَيْهِ عَلَى الْجَهَالَةِ، فَإِنَّ التَّجْهِيلَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ مِنْ جِهَتِهِ حَيْثُ أَجْمَلَ مَا اعْتَرَفَ بِلُزُومِهِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ.

وَأَمَّا إذَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ بَلْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ التَّجْهِيلُ مِنْ جِهَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَحْمِلْ شَيْئًا فَلَا وَجْهَ لِإِجْبَارِهِ عَلَى الْبَيَانِ بِمُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْفِقْهِ فَبَقِيَ الْإِشْكَالُ.

فَإِنْ قُلْت: الْقَاضِي لَا يَحْكُمُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ بَلْ يَحْكُمُ بِرَدِّ تِلْكَ الْعَيْنِ نَفْسِهَا إلَى صَاحِبِهَا وَالْجَهَالَةُ فِي قِيمَةِ تِلْكَ الْعَيْنِ لَا فِي نَفْسِهَا فَلَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ.

قُلْت: قَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْعَيْنَ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالْقِيمَةِ لَا بِغَيْرِهَا فَالْجَهَالَةُ فِي قِيمَةِ الْعَيْنِ جَهَالَةٌ فِي نَفْسِهَا، وَأَيْضًا إذَا حَكَمَ الْقَاضِي بِرَدِّ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ إلَى صَاحِبِهَا فَعَجَزَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ عَنْ رَدِّهَا إلَى صَاحِبِهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا إلَيْهِ فَالْقَاضِي إنْ حَكَمَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقِيمَةِ تِلْكَ الْعَيْنِ يَعُودُ الْإِشْكَالُ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا يُضَيِّعُ حَقَّ الْمُدَّعِي وَلَا يَظْهَرُ لِسَمَاعِ دَعْوَاهُ وَقَبُولِ بَيِّنَتِهِ فَائِدَةٌ.

فَإِنْ قِيلَ: الْقَاضِي لَا يَحْكُمُ عَلَى الْخَصْمِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ بَلْ يَحْبِسُهُ لِيَرُدَّ الْعَيْنَ الْمُدَّعَاةَ إلَى الْمُدَّعِي فَفَائِدَةُ سَمَاعِ الدَّعْوَى وَقَبُولِ الْبَيِّنَةِ هِيَ الْحَبْسُ. قُلْنَا: إلَى مَتَى يَحْبِسُهُ، إنْ حَبَسَهُ أَبَدًا يَصِيرُ ظَالِمًا لَهُ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ عَجْزُهُ عَنْ رَدِّهَا إلَى الْمُدَّعِي بِأَنْ يَمْضِيَ عَلَى الْحَبْسِ مُدَّةٌ يَعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ لَوْ بَقِيَتْ الْعَيْنُ الْمُدَّعَاةُ لَأَظْهَرَهَا عَلَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ، وَإِنْ حَبَسَهُ إلَى مُدَّةِ ظُهُورِ عَجْزِهِ عَنْ رَدِّهَا إلَى الْمُدَّعِي ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلْزِمَهُ الضَّمَانَ فَمِثْلُ ذَلِكَ لَمْ يُعْهَدْ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ إثْبَاتِ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ.

وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَخْلُو الْمَقَامُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَنْ ضَرْبٍ مِنْ الْإِشْكَالِ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَإِنْ ادَّعَى عَقَارًا حَدَّدَهُ) أَيْ ذَكَرَ الْمُدَّعِي حُدُودَهُ (وَذَكَرَ أَنَّهُ) أَيْ الْعَقَارَ (فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ) أَيْ وَذَكَرَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يُطَالِبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْمُدَّعَى.

أَقُولُ: هَكَذَا وَقَعَ وَضْعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي عَامَّةِ مُعْتَبَرَاتِ الْمُتُونِ، وَلَكِنْ فِيهِ قُصُورٌ إذْ الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّ ذِكْرَ حُدُودِ الْعَقَارِ كَافٍ فِي تَعْرِيفِهِ عِنْدَ الدَّعْوَى، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذْ قَدْ صَرَّحَ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى بَلْ فِي بَعْضِ شُرُوحِ الْهِدَايَةِ أَيْضًا بِأَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الدَّعْوَى فِي الْعَقَارِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْبَلْدَةِ الَّتِي فِيهَا الدَّارُ وَمِنْ ذِكْرِ الْمَحَلَّةِ وَمِنْ ذِكْرِ السِّكَّةِ وَمِنْ ذِكْرِ الْحُدُودِ. وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: تَصِحُّ الدَّعْوَى إذَا بَيَّنَ الْمِصْرَ وَالْمَحَلَّةَ وَالْمَوْضِعَ وَالْحُدُودَ. وَقِيلَ ذِكْرُ الْمَحَلَّةِ وَالسُّوقِ وَالسِّكَّةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَذِكْرُ الْمِصْرِ أَوْ الْقَرْيَةِ لَازِمٌ انْتَهَى.

وَقَدْ صَرَّحَ فِي مُعْتَبَرَاتِ الْفَتَاوَى أَيْضًا بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْبُدَاءَةِ، فَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْفَقِيهُ الْحَاكِمُ أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي شُرُوطِهِ: إذَا وَقَعَ الدَّعْوَى فِي الْعَقَارِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْبَلْدَةِ الَّتِي فِيهَا الدَّارُ، ثُمَّ مِنْ ذِكْرِ الْمَحَلَّةِ، ثُمَّ مِنْ ذِكْرِ السِّكَّةِ، فَيَبْدَأُ أَوَّلًا بِذِكْرِ الْكُورَةِ ثُمَّ بِالْمَحَلَّةِ اخْتِيَارًا لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَعَمِّ ثُمَّ يَنْزِلَ مِنْهُ إلَى الْأَخَصِّ.

وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الْبَغْدَادِيُّ: يَبْدَأُ بِالْأَخَصِّ ثُمَّ بِالْأَعَمِّ، فَيَقُولُ دَارٌ فِي سِكَّةِ كَذَا فِي مَحَلَّةِ كَذَا فِي كُورَةِ كَذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>