وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ. قَالَ (وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي) لِقَوْلِهِ ﵊ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» قَسَمَ وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ، وَجَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ
الصُّورَتَيْنِ بِأَنْ يَقُولَ: إذَا لَمْ تَكُنْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَلِلْمُدَّعِي غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي الِاسْتِحْلَافِ، وَهُوَ أَنْ يَقْصُرَ الْمَسَافَةَ وَالْمُؤْنَةَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ فَيَتَوَصَّلَ إلَى حَقِّهِ فِي الْحَالِ فَكَانَ لَهُ حَقُّ الْيَمِينِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ حَاضِرَةً فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَإِنَّ هَذَا الْغَرَضَ: أَعْنِي قَصْرَ الْمَسَافَةِ وَالْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ وَالتَّوَصُّلُ إلَى حَقِّهِ فِي الْحَالِ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي الِاسْتِحْلَافِ قَبْلَ إقَامَتِهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْيَمِينِ قَبْلَهَا فَلَمْ يَتِمَّ الِاسْتِدْلَال عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ أَيْضًا كَمَا يُشْعِرُ بِهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ (وَمُحَمَّدٌ مَعَ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ: وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَجِيبَةٌ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيَّ قَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَمَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا ذَكَرَهُ وَطَلَبَ مِنْ الْقَاضِي اسْتِحْلَافَهُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي مَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ ﵀ قَدْ رَوَى عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْتَحْلِفُ لَهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ ذَكَرَ الْمُدَّعِي أَنَّ لَهُ عَلَى دَعْوَاهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً، وَلَمْ نَجِدْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ ﵀، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ ﵀: يُسْتَحْلَفُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِحْلَافِهِ لَهُ ذِكْرُهُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً تَشْهَدُ لَهُ عَلَى دَعْوَاهُ، إلَى هُنَا لَفْظُ الطَّحَاوِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَقَدْ أَنْكَرَ الرِّوَايَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَصْلًا كَمَا تَرَى، وَمَعَ هَذَا كَيْفَ يَدَّعِي صَاحِبُ الْهِدَايَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِيمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقُدُورِيَّ قَالَ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ: قَالَ الطَّحَاوِيُّ لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْ مُحَمَّدٍ انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ الْغَايَةِ.
وَقَالَ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ إنْكَارَ صَاحِبِ الْغَايَةِ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي جَعْلِهِ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ وَبَعْدَ أَنْ نَقَلَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْغَايَةِ إجْمَالًا.
قُلْت: لَا وَجْهَ لِهَذَا الْإِنْكَارِ لِأَنَّ عَدَمَ وُقُوفِ الطَّحَاوِيِّ عَلَى أَنَّ مُحَمَّدًا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوفِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ انْتَهَ ى.
أَقُولُ: هَذَا الْكَلَامُ مِنْهُ عَجِيبٌ، لِأَنَّ الَّذِي أَنْكَرَ فِيهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ عَلَى الْمُصَنِّفِ إنَّمَا هُوَ إسْنَادُ الْمُصَنِّفِ رِوَايَةَ كَوْنِ مُحَمَّدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى الطَّحَاوِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الطَّحَاوِيَّ قَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ بِالْكُلِّيَّةِ فِي مُخْتَصَرِهِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُسْنِدَهَا الْمُصَنِّفُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ الَّذِي أَنْكَرَ فِيهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ عَلَى الْمُصَنِّفِ صِحَّةُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ ﵀ فِي أَصْلِهَا، حَتَّى يَتَمَشَّى مَا قَالَهُ الْعَيْنِيُّ مِنْ أَنَّ عَدَمَ وُقُوفِ الطَّحَاوِيِّ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ وُقُوفِ غَيْرِهِ عَلَيْهَا، وَكَوْنُ مَحِلِّ إنْكَارِ صَاحِبِ الْغَايَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِمَّا يَتَأَدَّى عَلَيْهِ أَلْفَاظُ تَحْرِيرِهِ فَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى الشَّارِحِ الْعَيْنِيِّ (قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ ﵊ «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ») وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (قَسَمَ) أَيْ قَسَمَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ حَيْثُ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ (وَالْقِسْمَةُ تُنَافِي الشَّرِكَةَ) لِأَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي عَدَمَ التَّمْيِيزِ وَالْقِسْمَةُ تَقْتَضِي التَّمْيِيزَ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ.
وَبِقَوْلِهِ (وَجَعَلَ جِنْسَ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكِرِينَ) إذْ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ لَامَ التَّعْرِيفِ تُحْمَلُ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ، وَيُقَدَّمُ عَلَى تَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute