وَهَذَا التَّحَالُفُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِيَ يُنْكِرُهُ، وَالْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِمَا نَقَدَ وَالْبَائِعَ يُنْكِرُهُ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ؛ فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا لِأَنَّ الْمَبِيعَ سَالِمٌ لَهُ فَبَقِيَ دَعْوَى الْبَائِعِ فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهَا فَيُكْتَفَى بِحَلِفِهِ،
فِي شَرْحِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَإِنْ لَمْ يَتَرَاضَيَا: أَيْ بِأَنْ يُعْطِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا يَدَّعِي صَاحِبُهُ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ قُصُورٌ، لِأَنَّ هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ جَمِيعًا دُونَ الصُّورَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ، إذْ قَدْ مَرَّ فِي الْكِتَابِ أَنَّ صُورَةَ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا ثَمَنًا وَيَدَّعِيَ الْآخَرُ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَأَنَّ صُورَةَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَبِيعِ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدُهُمَا قَدْرًا مِنْ الْمَبِيعِ وَيَدَّعِيَ الْآخَرُ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَلَوْ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مَا يَدَّعِي صَاحِبُهُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ لَزِمَ إعْطَاءُ الثَّمَنَيْنِ مَعًا أَوْ إعْطَاءُ الْمَبِيعَيْنِ مَعًا وَهَذَا خَلَفٌ. وَلَا يُخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا حُكْمٌ عَامٌّ لِلصُّوَرِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعًا فَلَا يُنَاسِبُهُ التَّفْسِيرُ الْمَذْكُورُ، وَقَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: أَيْ إنْ لَمْ يَتَرَاضَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي: يَعْنِي لَمْ يَرْضَ الْبَائِعُ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَبِيعِ وَلَمْ يَرْضَ الْمُشْتَرِي بِمَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ يَسْتَحْلِفُ الْقَاضِي كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ انْتَهَى.
أَقُولُ: وَفِيهِ أَيْضًا قُصُورٌ، لِأَنَّ هَذَا أَيْضًا لَا يَجْرِي إلَّا فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةٍ، فَلَا يُنَاسِبُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَاهُنَا فِي الْحُكْمِ الْعَامِّ لِلصُّوَرِ الثَّلَاثِ كُلِّهَا. وَأَمَّا سَائِرُ الشُّرَّاحِ فَلَمْ يَتَعَرَّضُوا هَاهُنَا لِلشَّرْحِ وَالْبَيَانِ. فَالْحَقُّ عِنْدِي فِي شَرْحِ الْمَقَامِ أَنْ يُقَالَ: أَيْ إنْ لَمْ يَتَرَاضَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي عَلَى الزِّيَادَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يَدَّعِيهِ أَحَدُهُمَا كَمَا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَالصُّورَةِ الثَّانِيَةِ، أَوْ مِمَّا يَدَّعِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ اسْتَحْلَفَ الْحَاكِمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى الْآخَرِ، فَحِينَئِذٍ يَجْرِي مَعْنَى الْكَلَامِ وَفَحْوَى الْمَقَامِ فِي كُلِّ صُورَةٍ كَمَا تَرَى (وَهَذَا التَّحَالُفُ قَبْلَ الْقَبْضِ) أَيْ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي السِّلْعَةَ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِيَ يُنْكِرُهُ) أَيْ يُنْكِرُ مَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ (وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِمَا نَقَدَ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ) لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ (فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ، لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا لِأَنَّ الْمَبِيعَ سَالِمٌ لَهُ فَبَقِيَ دَعْوَى الْبَائِعِ فِي زِيَادَةِ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهَا فَيُكْتَفَى بِحَلِفِهِ) أَيْ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُكْتَفَى بِحَلِفِهِ.
فَإِنْ قُلْت: إذَا لَمْ يَدَّعِ الْمُشْتَرِي شَيْئًا فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ بَيِّنَتُهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ إذَا أَقَامَهَا، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي مَعَ أَنَّهُ قَالَ فِيمَا قَبْلُ: فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ فَقَضَى لَهُ بِهَا. قُلْت: الْمُرَادُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا ادِّعَاءً مَعْنَوِيًّا فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي مُدَّعِيًا ادِّعَاءً صُورِيًّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي صُورَةٌ تُسْمَعُ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ كَمَا إذَا ادَّعَى الْمُودِعُ رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى مَا مَرَّ.
لَا يُقَالُ: إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مُدَّعِيًا صُورَةً فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ يَكُونُ الْبَائِعُ مُنْكِرًا لِمَا ادَّعَاهُ صُورَةً فَيَصِيرُ التَّحَالُفُ هَاهُنَا أَيْضًا مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ. لِأَنَّا نَقُولُ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِتَحْلِيفِ الْمُنْكِرِ الصُّورِيِّ، بَلْ إنَّمَا الْيَمِينُ إيذَاءٌ عَلَى الْمُنْكِرِ الْحَقِيقِيِّ، بِخِلَافِ الْمُدَّعِي الصُّورِيِّ فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ تُسْمَعُ مِنْهُ عَلَى مَا ذَكَرُوا. وَلَك أَنْ تَقُولَ فِي الْجَوَابِ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي شَيْئًا فِيمَا بَعْدَ الْقَبْضِ وَقَبُولُ بَيِّنَتِهِ فِيهِ لِدَفْعِ الْيَمِينِ عَنْهُ لَا لِكَوْنِهِ مُدَّعِيًا، وَهَذَا أَيْ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُدَّعِي لِدَفْعِ الْيَمِينِ كَثِيرٌ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ يَعْرِفُهُ مَنْ يَتَتَبَّعُ الْكُتُبَ، وَهَذَا الْوَجْهُ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute