لَكِنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ ﵊ «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا».
(وَيَبْتَدِئُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي) وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ﵀، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَشَدُّهُمَا إنْكَارًا لِأَنَّهُ يُطَالِبُ أَوَّلًا بِالثَّمَنِ
الْجَوَابِ هُوَ الْأَوْفَقُ لِمَا رَأَيْنَاهُ حَقًّا فِي شَرْحِ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ مِنْ كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ فِي صَدْرِ كِتَابِ الدَّعْوَى فَتَذَكَّرْ. أَقُولُ: بَقِيَ هَاهُنَا شَيْءٌ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِكَلِمَةِ هَذَا فِي قَوْلِهِ وَهَذَا التَّحَالُفُ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ الْإِشَارَةَ إلَى مَا فِي صُورَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ فَقَطْ مِنْ الصُّوَرِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَاتِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ اخْتِصَاصِ الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ إلَخْ بِتِلْكَ الصُّورَةِ فَلَا يَخْلُو الْكَلَامُ عَنْ الرَّكَاكَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ تِلْكَ الصُّورَةَ أَبْعَدُ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ، فَالْإِشَارَةُ إلَى مَا فِيهَا بِلَفْظِ الْقَرِيبِ بَعِيدٌ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ: أَعْنِي كَوْنَ التَّحَالُفِ قَبْلَ الْقَبْضِ عَلَى وِفَاقِ الْقِيَاسِ وَبَعْدَهُ عَلَى خِلَافِهِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِتِلْكَ الصُّورَةِ، بَلْ هُوَ جَارٍ أَيْضًا فِي صُورَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَبِيعِ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي فِيهَا قَبْلَ قَبْضِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ زِيَادَةَ الْمَبِيعِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ، وَالْبَائِعُ يَدَّعِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ بِمَا اعْتَرَفَ مِنْ الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُهُ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ. وَأَمَّا بَعْدَ قَبْضِ الْبَائِعِ الثَّمَنَ فَلَا يَدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا لِأَنَّ الثَّمَنَ سَالِمٌ لَهُ. بَقِيَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي فِي زِيَادَةِ الْمَبِيعِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُهُ فَيَكْتَفِي بِحَلِفِهِ، وَلَقَدْ أَفْصَحَ الْإِمَامُ الزَّيْلَعِيُّ عَنْ عَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِتِلْكَ الصُّورَةِ حَيْثُ قَالَ فِي التَّبْيِينِ: وَهَذَا إذَا كَانَ قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فَظَاهِرٌ وَهُوَ قِيَاسٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَمُخَالِفٌ لِلْقِيَاسِ لِأَنَّ الْقَابِضَ مِنْهُمَا لَا يَدَّعِي شَيْئًا عَلَى صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا يُنْكِرُ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ انْتَهَى.
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْأَصْلُ الْمَذْكُورُ مَخْصُوصًا بِتِلْكَ الصُّورَةِ لَمْ يَظْهَرْ لِتَخْصِيصِ الْإِشَارَةِ إلَى مَا فِيهَا وَجْهٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا الْإِشَارَةَ إلَى جِنْسِ التَّحَالُفِ فَلَا يَخْلُو الْمَقَامُ عَنْ الرَّكَاكَةِ لَفْظًا وَمَعْنًى أَيْضًا. أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ لَفْظَ هَذَا يَصِيرُ حِينَئِذٍ زَائِدًا، لَا مَوْقِعَ لَهُ فِي الظَّاهِرِ، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةَ الثَّمَنِ إلَخْ يَصِيرُ حِينَئِذٍ أَخَصَّ مِنْ الْمُدَّعِي.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْكَافِي وَكَثِيرًا مِنْ الثِّقَاتِ تَرَكُوا كَلِمَةَ هَذَا فِي بَيَانِ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَلَكِنَّهُمْ ذَكَرُوا أَيْضًا فِي دَلِيلِ مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ بَعْضَ الْقَبْضِ مَا يَخْتَصُّ بِصُورَةِ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ فَقَطْ، وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ الْكُلِّ بِعِنَايَةٍ فَتَأَمَّلْ (وَلَكِنَّا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قَوْلِهِ فَيُكْتَفَى بِحَلِفِهِ. يَعْنِي كَانَ الْقِيَاسُ فِي صُورَةِ الِاخْتِلَافِ بَعْدَ الْقَبْضِ أَنْ يُكْتَفَى بِحَلِفِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّا عَرَفْنَا التَّحَالُفَ بِالنَّصِّ (وَهُوَ قَوْلُهُ ﵊ «إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا») قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِلْمَشْهُورِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فَهُوَ مَرْجُوحٌ، وَإِنْ كَانَ فَكَذَلِكَ لِعُمُومِ الْمَشْهُورِ أَوْ يَتَعَارَضَانِ وَلَا تَرْجِيحَ انْتَهَى. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ عَنْهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ عِبَارَةَ النَّصِّ تُرَجَّحُ عَلَى إشَارَةِ النَّصِّ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا الْحَدِيثُ رَاجِحًا عَلَى الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ، لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَدُلُّ بِعِبَارَتِهِ عَلَى اسْتِحْلَافِ الْمُدَّعِي أَيْضًا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ فَلَا يَدُلُّ بِعِبَارَتِهِ عَلَى عَدَمِ اسْتِحْلَافِ الْمُدَّعِي مُطْلَقًا، بَلْ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِإِشَارَتِهِ حَيْثُ يُفْهَمُ مِنْ تَقْسِيمِ الْحُجَّتَيْنِ لِلْخَصْمَيْنِ أَوْ مِنْ جَعْلِ جِنْسِ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُنْكَرَيْنِ كَمَا بَيَّنَ فِيمَا مَرَّ فَهُوَ إذَنْ مَرْجُوعٌ
(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَيَبْتَدِئُ) أَيْ الْقَاضِي (بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا وَرِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازًا عَنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَبِي يُوسُفَ كَمَا سَيَجِيءُ (لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَشَدُّهُمَا إنْكَارًا لِأَنَّهُ يُطَالِبُ أَوَّلًا بِالثَّمَنِ) فَهُوَ الْبَادِئُ بِالْإِنْكَارِ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْإِنْكَارِ دُونَ شِدَّتِهِ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِالشِّدَّةِ التَّقَدُّمَ وَهُوَ أَنْسَبُ بِالْمَقَامِ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ فِي الْإِنْكَارِ تَقَدَّمَ فِي الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَدَارَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى كَوْنِ الْبَادِي أَظْلَمُ لِكَوْنِهِ مُنْشَأً لِلثَّانِي أَيْضًا فَيَكُونُ أَشَدَّ كَمَا يَكُونُ أَقْدَمَ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَدَارُهُ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا كَانَ مُطَالَبًا أَوَّلًا بِالثَّمَنِ كَانَ مُنْكِرًا لِلشَّيْئَيْنِ أَصْلُ