(وَلَوْ قَالَ الشُّهُودُ: أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ لَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ) لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُودِعُ هُوَ هَذَا الْمُدَّعِي، وَلِأَنَّهُ مَا أَحَالَهُ إلَى مُعَيَّنٍ يُمْكِنُ لِلْمُدَّعِي اتِّبَاعُهُ، فَلَوْ انْدَفَعَتْ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُدَّعِي،
أَيْ لَا يَقْبَلُ مَا صَنَعَهُ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ فِي مَبْسُوطِهِ: مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ اسْتِحْسَانٌ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْدَمَا اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ لِأَنَّهُ مَارَسَ الْقَضَاءَ فَوَقَفَ عَلَى أَحْوَالِ النَّاسِ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ غَيْرُهُ، وَمَا قَالَاهُ قِيَاسٌ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ حِجَجٌ مَتَى قَامَتْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهَا بِمُجَرَّدِ الْوَهْمِ، كَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَتْ الْعَيْنُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ هَذَا الشَّيْءُ أَوْدَعَنِيهِ، فَإِنَّ الْإِشَارَةَ الْحِسِّيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا إلَى مَوْجُودٍ فِي الْخَارِجِ، وَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ فَلَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً فَذُو الْيَدِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا بِظَاهِرِ الْيَدِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْمِلْكِ، إلَّا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فَيَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ بِالْحُجَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ، وَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ فَالدَّعْوَى تَقَعُ فِي الدَّيْنِ وَمَحَلُّهُ الذِّمَّةُ فَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي بِذِمَّتِهِ وَبِمَا أَقَامَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْبَيِّنَةِ، وَعَلَى أَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ ذِمَّتَهُ كَانَتْ لِغَيْرِهِ فَلَا تَتَحَوَّلُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ، كَذَا فِي الْعِنَايَةِ وَكَثِيرٍ فِي الشُّرُوحِ.
ثُمَّ إنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ إذَا قَالَ الشُّهُودُ: أَوْدَعَهُ رَجُلٌ نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَوَجْهِهِ (وَلَوْ قَالَ الشُّهُودُ: أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ) أَيْ أَصْلًا بِاسْمِهِ وَلَا نَسَبِهِ وَلَا بِوَجْهِهِ (وَلَا تَنْدَفِعُ عَنْهُ الْخُصُومَةُ) أَيْ بِالْإِجْمَاعِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُمْ بِالْإِجْمَاعِ هَاهُنَا إجْمَاعُ أَئِمَّتِنَا الثَّلَاثَةِ أَوْ إجْمَاعُ مَا عَدَا ابْنَ أَبِي لَيْلَى، فَإِنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عِنْدَهُ فِي انْدِفَاعِ الْخُصُومَةِ كَمَا مَرَّ، قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ (لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُودِعُ هُوَ هَذَا الْمُدَّعِي) حَيْثُ لَمْ يَعْرِفُوهُ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ ذَا الْيَدِ (مَا أَحَالَهُ) أَيْ مَا أَحَالَ الْمُدَّعِي (إلَى مُعَيَّنٍ يُمْكِنُ لِلْمُدَّعِي اتِّبَاعُهُ، فَلَوْ انْدَفَعَتْ) أَيْ الْخُصُومَةُ (وَلَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُدَّعِي) أَقُولُ: فِي تَعْلِيلِهِ الثَّانِي قُصُورٌ: أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ فَلِأَنَّهُ أَضْمَرَ فِيهِ الْمُدَّعِي أَوَّلًا حَيْثُ قَالَ مَا أَحَالَهُ وَأَظْهَرَهُ ثَانِيًا حَيْثُ قَالَ: يُمْكِنُ لِلْمُدَّعِي اتِّبَاعُهُ. وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ سَمَاجَةُ ذَلِكَ، وَكَوْنُ الْوَجْهِ إمَّا الْعَكْسُ وَإِمَّا الْإِضْمَارُ فِي الْمَقَامَيْنِ.
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ جَعَلَهُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْإِجْمَاعِيَّةِ، مَعَ أَنَّهُ مَنْقُوضٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بِالْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ وَهِيَ مَا لَوْ قَالَ الشُّهُودُ: نَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ وَلَا نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ هُنَاكَ عِنْدَهُمَا كَمَا سَيَظْهَرُ، وَكَأَنَّ الْإِمَامَ الزَّيْلَعِيَّ تَنَبَّهْ لِهَذَا فَجَعَلَ الدَّلِيلَيْنِ دَلِيلًا وَاحِدًا حَيْثُ قَالَ فِي تَعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي التَّبْيِينِ: لِأَنَّهُمْ مَا أَحَالُوا الْمُدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٍ يُمْكِنُ مُخَاصَمَتُهُ، وَلَعَلَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَلَوْ انْدَفَعَتْ لَبَطَلَ حَقُّهُ انْتَهَى. ثُمَّ إنَّ الظَّاهِرَ كَأَنْ يَقُولَ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ مَا أَحَالُوهُ بَدَلَ قَوْلِهِ لِأَنَّهُ مَا أَحَالَهُ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِي أَنْ لَا يَعْرِفَهُ الشُّهُودُ لَا فِي أَنْ لَا يَعْرِفَهُ ذُو الْيَدِ كَمَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute