«أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﵊ فِي نَاقَةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ».
وَحَدِيثُ الْقُرْعَةِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ، وَلِأَنَّ الْمُطْلَقَ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ بِأَنْ يَعْتَمِدَ أَحَدُهُمَا سَبَبَ الْمِلْكِ وَالْآخَرُ الْيَدَ فَصَحَّتْ الشَّهَادَتَانِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا مَا أَمْكَنَ، وَقَدْ أَمْكَنَ بِالتَّنْصِيفِ إذْ الْمَحِلُّ يَقْبَلُهُ، وَإِنَّمَا يُنَصَّفُ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ.
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي نَاقَةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً فَقَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ»)
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ﵁ «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي شَيْءٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَقَالَ: مَا أَحْوَجَكُمَا إلَى سِلْسِلَةٍ كَسِلْسِلَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ، كَانَ دَاوُد ﵇ إذَا جَلَسَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ نَزَلَتْ سِلْسِلَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِعِتْقِ الظَّالِمِ، ثُمَّ قَضَى بِهِ رَسُولُنَا ﷺ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ» (وَحَدِيثُ الْقُرْعَةِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ نُسِخَ) هَذَا جَوَابٌ عَنْ حَدِيثِ الْقُرْعَةِ: يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ وَقْتَ إبَاحَةِ الْقِمَارِ ثُمَّ نُسِخَ بِحُرْمَةِ الْقِمَارِ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُسْتَحِقِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ ابْتِدَاءً: فَكَمَا أَنَّ تَعْلِيقَ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ قُرْعَةِ قِمَارٍ فَكَذَلِكَ تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ، بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ لِأَنَّ لِلْقَاضِي هُنَاكَ وِلَايَةَ التَّعْيِينِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ، وَإِنَّمَا يَقْرَعُ تَطْيِيبًا لِلْقُلُوبِ، وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ، كَذَا فِي الْكَافِي وَسَائِرِ الشُّرُوحِ (وَلِأَنَّ الْمُطْلِقَ) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ الْمُجَوِّزَ (لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ (بِأَنْ يَعْتَمِدَ أَحَدُهُمَا سَبَبَ الْمِلْكِ) كَالشِّرَاءِ (وَالْآخَرُ الْيَدَ فَصَحَّتْ الشَّهَادَتَانِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي حَلِّ هَذَا الْمَقَامِ: وَلَا نُسَلِّمُ كَذِبَ إحْدَاهُمَا بِيَقِينٍ لِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ، فَإِنَّ صِحَّةَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَا تَعْتَمِدُ وُجُودَ الْمِلْكِ حَقِيقَةً لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبَ الْمِلْكِ بِأَنْ رَآهُ يَشْتَرِي فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ وَالْآخَرُ اعْتَمَدَ الْيَدَ فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ فَكَانَتْ الشَّهَادَتَانِ صَحِيحَتَيْنِ انْتَهَى.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ تَقْرِيرِهِ أَنَّهُ قَدْ حَمَلَ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَلِأَنَّ الْمُطْلِقَ لِلشَّهَادَةِ إلَخْ عَلَى مَنْعِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا مَجَالَ لِمَنْعِ ذَلِكَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّ مَعْنَى صِدْقِ الْخَبَرِ مُطَابِقَتُهُ لِلْوَاقِعِ، وَمَعْنَى كَذِبِهِ عَدَمُ مُطَابِقَتِهِ لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ اجْتِمَاعِ الْمِلْكَيْنِ فِي كُلِّ الْعَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ضَرُورِيَّةٌ فَكَذَبَ إحْدَاهُمَا: أَيْ عَدَمُ مُطَابِقَتِهَا لِلْوَاقِعِ مُتَيَقَّنٌ بِلَا رَيْبٍ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ السَّنَدِ لِلْمَنْعِ لَا يُجْدِي طَائِلًا مِنْ دَفْعِ هَذَا كَمَا لَا يَخْفَى.
وَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ الْمَذْكُورِ مَنْعَ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ، بَلْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِهِ الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ: أَيْ إثْبَاتَ مُدَّعَانَا مَعَ الْتِزَامِ مَا قَالَهُ الْخَصْمُ. وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْمُطْلِقَ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ بِأَنْ يَعْتَمِدَ أَحَدُهُمَا بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَالْآخَرُ الْيَدَ، وَكُلُّ شَهَادَةٍ لَهَا مُطْلِقٌ كَذَلِكَ فَهِيَ صَحِيحَةٌ سَوَاءٌ طَابَقَتْ الْوَاقِعَ أَوْ لَمْ تُطَابِقْهُ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الشَّهَادَةِ لَا تَعْتَمِدُ تَحَقُّقَ الْمَشْهُودِ بِهِ فِي الْوَاقِعِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ بَلْ إنَّمَا تَعْتَمِدُ ظَاهِرَ الْحَالِ فَصَحَّتْ الشَّهَادَتَانِ (فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا مَا أَمْكَنَ) لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ حِجَجُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْعَمَلُ بِهَا وَاجِبٌ مَهْمَا أَمْكَنَ وَقَدْ أَمْكَنَ هَاهُنَا (بِالتَّنْصِيفِ إذْ الْمَحَلُّ يَقْبَلُهُ) أَيْ يَقْبَلُ التَّنْصِيفَ (وَإِنَّمَا يُنَصَّفُ لِاسْتِوَائِهِمَا) أَيْ لِاسْتِوَاءِ الْمُدَّعِيَيْنِ (فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ)
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute