للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ (فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَا بَيِّنَةً لَمْ يَقْضِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ) لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا؛ لِأَنَّ الْمَحِلَّ لَا يَقْبَلُ الِاشْتِرَاكَ. قَالَ (وَيَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ لِأَحَدِهِمَا) لِأَنَّ النِّكَاحَ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ، وَهَذَا إذَا لَمْ تُؤَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ، فَأَمَّا إذَا وَقَّتَا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى

وَهُوَ الشَّهَادَةُ.

فَحَاصِلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا عَلَى مَا وَجَّهْنَاهُ أَنَّ مَدَارَ الْعَمَلِ بِالشَّهَادَتَيْنِ صِحَّتُهُمَا لَا صِدْقُهُمَا، فَإِنَّهُ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْعِبَادُ، وَأَنَّ وَجْهَ صِحَّتِهِمَا مَا ذَكَرَهُ يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ فِي التَّفْرِيعِ: فَصَحَّتْ الشَّهَادَتَانِ وَلَمْ يَقُلْ فَصَدَقَتْ الشَّهَادَتَانِ. ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ اعْتَرَضَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ وَلَا نُسَلِّمُ كَذِبَ إحْدَاهُمَا بِيَقِينٍ. وَأَجَابَ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ الْكَذِبَ هُوَ عَدَمُ مُطَابَقَةِ الْحُكْمِ لِلْوَاقِعِ وَعَدَمُ مُطَابَقَةِ كَلَامِ إحْدَاهُمَا لِنَفْسِ الْأَمْرِ مِنْ أَجْلَى الْوَاضِحَاتِ، فَكَيْفَ يَمْنَعُ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْرِضِ السَّنَدِ مَا يَدْفَعُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَخْفَى؟ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَانِعَ عَنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ هُوَ كَذِبُهَا شَرْعًا وَهُوَ مَفْقُودٌ هَاهُنَا، وَإِلَّا لَزِمَ اجْتِمَاعُ إطْلَاقِ الشَّهَادَةِ وَتَكْذِيبُهَا شَرْعًا. فَاَلَّذِي لَا يُسَلِّمُهُ الشَّارِحُ هُوَ الْكَذِبُ الشَّرْعِيُّ فَلْيُتَأَمَّلْ انْتَهَى.

أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِكَذِبِهَا شَرْعًا عَدَمُ مُطَابَقَتِهَا لِلِاعْتِقَادِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ الْكَذِبِ هَاهُنَا بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ عَدَمَ مُطَابَقَةِ الْحُكْمِ لِلْوَاقِعِ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُوَجِّهٍ لِأَنَّ كَوْنَ صِدْقِ الْخَبَرِ مُطَابَقَتَهُ لِاعْتِقَادِ الْمَخْبَرِ، وَكَذِبُهُ عَدَمُ مُطَابَقَتِهِ لِاعْتِقَادِهِ مَذْهَبُ النَّظَّامِ وَمَنْ تَابَعَهُ. وَقَدْ أَبْطَلَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَصْدِيقِ الْيَهُودِيِّ فِي قَوْلِهِ: الْإِسْلَامُ حَقٌّ مَعَ مُخَالِفَتِهِ لِاعْتِقَادِهِ، وَتَكْذِيبِهِ فِي قَوْلِهِ: الْإِسْلَامُ بَاطِلٌ مَعَ مُطَابَقَتِهِ لِاعْتِقَادِهِ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْكَذِبُ الشَّرْعِيُّ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْمَذْهَبِ الْمُزَيَّفِ وَيَجْعَلُ مَبْنَى الِاسْتِدْلَالِ أَئِمَّتَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ؟ وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَكُنْ الْكَذِبُ الشَّرْعِيُّ عَدَمَ الْمُطَابَقَةِ لِلْوَاقِعِ بَلْ كَانَ عَدَمَ الْمُطَابَقَةِ لِلِاعْتِقَادِ لَمَا كَانَ لِمَا وَرَدَ فِي قَوَاعِدِ الشَّرْعِ مِنْ أَنَّهُ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ وَلَمْ يَتَعَمَّدْهُ مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ لِلِاعْتِقَادِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ التَّعَمُّدِ. وَأَيْضًا لَا يَنْدَفِعُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ بِمَنْعِ كَذِبِ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ بِيَقِينٍ بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ لِلِاعْتِقَادِ، إذْ يَكْفِي لَهُ كَذِبُ إحْدَاهُمَا بِيَقِينٍ بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ لِلْوَاقِعِ فَإِنْ الْتَزَمَ جَوَازَ الْعَمَلِ بِهِمَا عِنْدَ تَيَقُّنِ عَدَمِ مُطَابَقَةِ إحْدَاهُمَا لِلْوَاقِعِ فَلِمَ لَا يَلْتَزِمُ جَوَازَ الْعَمَلِ بِهِمَا عِنْدَ تَيَقُّنِ كَذِبِ إحْدَاهُمَا بِمَعْنَى عَدَمِ الْمُطَابَقَةِ لِلْوَاقِعِ.

وَالْفَرْقُ بِمُجَرَّدِ إطْلَاقِ لَفْظِ الْكَذِبِ وَعَدَمِ إطْلَاقِهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَحْقِيقِ مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّمَا هُوَ اعْتِبَارٌ لَفْظِيٌّ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ بِهِ الْقَوْلَ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ. ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ: وَإِلَّا لَزِمَ اجْتِمَاعُ إطْلَاقِ الشَّهَادَةِ وَتَكْذِيبِهَا شَرْعًا إنْ أَرَادَ بِهِ أَنْ يَلْزَمَ اجْتِمَاعُ إطْلَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّهَادَتَيْنِ، وَتَكْذِيبُهَا بِعَيْنِهَا مَمْنُوعٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ إطْلَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَتَكْذِيبُ إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا فَمُسَلَّمٌ، لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ الْمَحْذُورَ فِيهِ، إذْ الْكَذِبُ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهَا كَانَ مُحْتَمَلًا لَا مُحَقَّقًا فَتَأَمَّلْ

(قَالَ) أَيْ الْقُدُورِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ (فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الرَّجُلَيْنِ (نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَا بَيِّنَةً لَمْ يَقْضِ بِوَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ لِتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهَا لِأَنَّ الْمَحِلَّ لَا يَقْبَلُ الِاشْتِرَاكَ. قَالَ: وَيَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ النِّكَاحَ مِمَّا يُحْكَمُ بِهِ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ) وَحُكِيَ عَنْ رُكْنِ الْإِسْلَامِ عَلِيٍّ السُّغْدِيِّ أَنَّهُ لَا تَتَرَجَّحُ إحْدَاهُمَا إلَّا بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ: إحْدَاهُمَا إقْرَارُ الْمَرْأَةِ، وَالثَّانِيَةُ كَوْنُهَا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، وَالثَّالِثَةُ دُخُولُ أَحَدِهِمَا بِهَا إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ نِكَاحَهُ أَسْبَقُ كَذَا فِي الشُّرُوحِ نَقْلًا عَنْ الْخُلَاصَةِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) أَيْ الْحُكْمُ الْمَذْكُورُ (إذَا لَمْ تُؤَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ، فَأَمَّا إذَا وُقِّتَا فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى) لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ، كَذَا فِي الْكَافِي. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ فَصَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى لَيْسَ بِجَلِيٍّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ أَوْلَى إذَا كَانَ الثَّانِي بَعْدَهُ بِمُدَّةٍ لَا تَحْتَمِلُ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ فِيهَا، أَمَّا إذَا احْتَمَلَتْ ذَلِكَ فَيَتَسَاوَيَانِ

<<  <  ج: ص:  >  >>