وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ فَلَا تُنْقَضُ الْيَدُ الثَّابِتَةُ بِالشَّكِّ، وَكَذَا لَوْ ذَكَرَ الْآخَرُ وَقْتًا لِمَا بَيَّنَّا.
وَتَنْقِيحِ الْمُرَادِ مَا يَأْبَى أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ ذَلِكَ، إذْ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَاكْتَفَى بِأَنْ قَالَ لِأَنَّ قَبْضَهُ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ، إذْ يَحْصُلُ بِهِ مَا هُوَ مَدَارُ ذَلِكَ التَّحْقِيقِ فَلَا يَبْقَى لِذِكْرِ تَمَكُّنِهِ مِنْ قَبْضِهِ مَوْقِعٌ حَسَنٌ، فَعِنْدِي أَنَّ تَحْقِيقَ مُرَادِهِ هُوَ أَنَّ تَمَكُّنَ أَحَدِهِمَا مِنْ قَبْضِ الْمُدَّعِي يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ شِرَائِهِ إيَّاهُ سَابِقًا، إذْ لَوْ كَانَ شِرَاءُ غَيْرِ الْقَابِضِ إيَّاهُ سَابِقًا لَمَا تَمَكَّنَ الْقَابِضُ مِنْ قَبْضِهِ.
فَإِنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ مِلْكًا لِغَيْرِ الْقَابِضِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَمَكَّنُ عَادَةً مِنْ قَبْضِ مِلْكِ الْغَيْرِ بَلْ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَبْضِ مِلْكِ نَفْسِهِ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ الْقَابِضُ مِنْ قَبْضِهِ دَلَّ تَمَكُّنُهُ مِنْهُ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَعَ كَوْنِهِ ظَاهِرًا مِنْ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ بِلَا كُلْفَةٍ وَبِلَا تَوَقُّفٍ عَلَى بَسْطِ مُقَدِّمَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ سَتَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ الْجَلِيلَةُ عَنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ) أَيْ وَلِأَنَّ الْقَابِضَ وَغَيْرَ الْقَابِضِ اسْتَوَيَا فِي إثْبَاتِ الشِّرَاءِ بِالْبَيِّنَةِ، وَلِلْقَابِضِ أَمْرٌ مُرَجِّحٌ وَهُوَ يَدُهُ الثَّابِتَةُ بِالْمُعَايَنَةِ لِأَنَّ غَيْرَ الْقَابِضِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الْقَابِضِ فِي الْعَقْدِ فَيَنْقُضُ يَدَ الْقَابِضِ وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ فِي الْعَقْدِ فَلَا يَنْقُصُ يَدَهُ فَصَارَ أَمْرُهُ مَشْكُوكًا (فَلَا تُنْقَضُ الْيَدُ الثَّابِتَةُ بِالشَّكِّ). لَا يُقَالُ: بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَرْجِعَ بَيِّنَةُ غَيْرِ الْقَابِضِ. لِأَنَّا نَقُولُ: بَيِّنَةُ الْخَارِجِ إنَّمَا تَكُونُ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ إذَا ادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا.
أَمَّا إذَا ادَّعَيَا الْمِلْكَ بِسَبَبٍ فَهُمَا سِيَّانِ نَصَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْكَافِي هَاهُنَا. وَقَدْ صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا مَا مَرَّ فِي أَوَائِلِ بَابِ الْيَمِينِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ مَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءِ مِنْ اثْنَيْنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ فَإِنَّ الْخَارِجَ هُنَاكَ أَوْلَى. وَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ ثَمَّةَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِبَائِعِهِ أَوَّلًا، فَاجْتَمَعَ فِي حَقِّ الْبَائِعَيْنِ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ فَكَانَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى، وَهَاهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ انْتَهَى. وَقَدْ سَبَقَهُ إلَى هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ، وَزَادَ فِي الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ: فَأَمَّا هَاهُنَا فَلَا يَحْتَاجَانِ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ، إنَّمَا حَاجَتُهُمَا إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ وَسَبَبُ الْقَابِضِ أَقْوَى لِتَأَكُّدِهِ بِالْقَبْضِ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى انْتَهَى. أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ الْمِلْكُ لَهُ ثَمَّةَ وَهُوَ بَائِعٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَيْسَ بِذِي يَدٍ بَلْ هُوَ خَارِجٌ كَغَيْرِ الْقَابِضِ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ، وَكَوْنُ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بِينَةِ ذِي الْيَدِ فِيمَا إذَا أَثْبَتَا الْمِلْكَ لِأَنْفُسِهِمَا مُسَلَّمٌ، وَأَمَّا فِيمَا إذَا أَثْبَتَاهُ لِخَارِجٍ آخَرَ فَمَمْنُوعٌ؛ أَلَا يَرَى أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي ذَكَرُوا لِإِثْبَاتِ كَوْنِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ، وَهُوَ أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ إثْبَاتًا أَوْ إظْهَارًا، فَإِنَّ قَدْرَ مَا أَثْبَتَتْهُ الْيَدُ لَا تُثْبِتُهُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ دَلِيلُ مُطْلَقِ الْمِلْكِ انْتَهَى.
إنَّمَا يَجْرِي فِيمَا إذَا أَثْبَتَا الْمِلْكَ لِأَنْفُسِهِمَا لَا فِيمَا إذَا أَثْبَتَاهُ لِخَارِجٍ آخَرَ كَمَا لَا يَخْفَى فَتَأَمَّلْ (وَكَذَا لَوْ ذَكَرَ الْآخَرُ وَقْتًا) أَيْ لَوْ ذَكَرَ غَيْرُ الْقَابِضِ وَقْتًا كَانَ الْعَبْدُ لِذِي الْيَدِ أَيْضًا (لِمَا بَيَّنَّا) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: بَلْ عَامَّةُ الشُّرَّاحِ قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ: لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ. أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ حَمَلُوا قَوْلَ الْمُصَنِّفِ فِيمَا مَرَّ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَبْضِهِ يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ شِرَائِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ كَمَا مَرَّ، وَذَلِكَ التَّحْقِيقُ لَا يُجْرَى فِيمَا إذَا ذَكَرَ الْآخَرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute