وَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا رَهْنًا وَقَبْضًا وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَالرَّهْنُ أَوْلَى) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ الْهِبَةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ مَضْمُونٌ وَبِحُكْمِ الْهِبَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى. بِخِلَافِ الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لِأَنَّهُ بَيْعُ انْتِهَاءٍ وَالْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ صُورَةً وَمَعْنًى، وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ إلَّا عِنْدَ الْهَلَاكِ مَعْنًى لَا صُورَةً فَكَذَا الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ
(وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالتَّارِيخِ فَصَاحِبُ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ أَوْلَى) لِأَنَّهُ أَثْبَتَ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَالِكَيْنِ فَلَا يَتَلَقَّى الْمِلْكَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ
الْيَوْمِ الْفُلَانِيِّ، وَظَاهِرٌ أَنَّهُ يَسَعُ فِيهِ الْعُقُودَ الْمُتَعَدِّدَةَ عَلَى التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ إذْ لَمْ نَرَ شَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى وَقْتٍ مُضَيَّقٍ لَا يَسَعُ فِيهِ عَقْدَانِ انْتَهَى. فَتَأَمَّلْ.
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ جَوَابَ أَبِي يُوسُفَ عَمَّا قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ مِلْكُ الْعَيْنِ، وَالنِّكَاحُ إذَا تَأَخَّرَ لَمْ يُوجِبْ مِلْكَ الْمُسَمَّى كَمَا إذَا تَأَخَّرَ الشِّرَاءُ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي حَقِّ تَمَلُّكِ الْعَيْنِ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: فِيهِ بَحْثٌ، إذْ لَا يَنْدَفِعُ بِهَذَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ، فَإِنَّهُ إذَا تَأَخَّرَ النِّكَاحُ ثَبَتَ مِلْكُ الْعَيْنِ فِي الْمُسَمَّى لِمُدَّعِي الشِّرَاءِ صُورَةً وَمَعْنًى وَلِمُدَّعِيهِ الْمَهْرُ مَعْنًى فَوُجِدَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، بِخِلَافِ مَا إذَا سَوَّيْنَاهُمَا انْتَهَى.
أَقُولُ: هَذَا الْبَحْثُ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ لَا يُثْبِتُ مِلْكَ الْعَيْنِ لِمُدَّعِيَةِ الْمَهْرِ عِنْدَ تَأَخُّرِ النِّكَاحِ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى، إذْ لَمْ نَسْمَعْ جَعْلَ مِلْكِ الْقِيمَةِ مِلْكَ الْعَيْنِ لَا بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَلَا بِحَسَبِ الْعُرْفِ. وَلَئِنْ سَلِمَ ذَلِكَ فَلِأَبِي يُوسُفَ أَنْ يَقُولَ: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ مِلْكُ الْعَيْنِ صُورَةً، إذْ لَوْلَاهُ لَاكْتَفَى فِي الدَّعْوَى بِذِكْرِ مَبْلَغِ الْقِيمَةِ فَهُمَا سَوَاءٌ فِي حَقِّ ذَلِكَ
(وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا رَهْنًا وَقَبْضًا وَالْآخَرُ هِبَةً وَقَبْضًا وَأَقَامَا بَيِّنَةً فَالرَّهْنُ أَوْلَى) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ الْهِبَةُ أَوْلَى) وَهُوَ رِوَايَةُ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ قَوْلُهُ: (لِأَنَّهَا) أَيْ لِأَنَّ الْهِبَةَ (تُثْبِتُ الْمِلْكَ) أَيْ مِلْكَ الْعَيْنِ (وَالرَّهْنَ لَا يُثْبِتُهُ) فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْهِبَةِ أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَهِيَ أَوْلَى (وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ مَضْمُونٌ) وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الرَّهْنَ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ (وَبِحُكْمِ الْهِبَةِ) أَيْ الْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الْهِبَةِ (غَيْرُ مَضْمُونٍ وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى) أَيْ مِنْ عَقْدِ التَّبَرُّعِ، وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ الرَّهْنِ تُثْبِتُ بَدَلَيْنِ الْمَرْهُونَ وَالدَّيْنَ، وَالْهِبَةُ لَا تُثْبِتُ إلَّا بَدَلًا وَاحِدًا فَكَانَتْ أَكْثَرَ إثْبَاتًا فَكَانَتْ أَوْلَى، كَذَا فِي الشُّرُوحِ (بِخِلَافِ الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ) يَعْنِي لَا تُرَدُّ الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ نَقْضًا حَيْثُ كَانَتْ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ (لِأَنَّهُ بَيْعُ انْتِهَاءٍ) أَيْ لِأَنَّ الْهِبَةَ بَيْعُ انْتِهَاءٍ، وَتَذْكِيرُ الضَّمِيرِ الرَّاجِعِ إلَى الْهِبَةِ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ أَوْ بِتَأْوِيلِ الْعَقْدِ (وَالْبَيْعُ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْبَيْعَ (عَقْدُ ضَمَانٍ يُثْبِتُ الْمِلْكَ صُورَةً وَمَعْنًى، وَالرَّهْنُ لَا يُثْبِتُهُ إلَّا عِنْدَ الْهَلَاكِ مَعْنًى لَا صُورَةً هَكَذَا الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ) أَيْ فَكَذَا الْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ أَوْلَى مِنْ الرَّهْنِ لِكَوْنِهَا بَيْعًا انْتِهَاءً. فَإِنْ قُلْت: التَّرْجِيحُ بِمَعْنًى قَائِمٍ فِي الْحَالِ، وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَيْعٌ انْتِهَاءً تَبَرُّعٌ ابْتِدَاءً فَتَكُونُ كَالْهِبَةِ مَعَ الصَّدَقَةِ. قُلْت: نَعَمْ هِيَ مُعَاوَضَةٌ انْتِهَاءً، وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَقْصُودُ الْعَاقِدِ فِي الِابْتِدَاءِ عَادَةً فَتَكُونُ مُعَاوَضَةً ابْتِدَاءً نَظَرًا إلَى الْمَقْصُودِ، بِخِلَافِ اللُّزُومِ فِي الصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلْمُتَصَدِّقِ فَلَا يَكُونُ اللُّزُومُ قَائِمًا فِي الْحَالِ، لَا نَظَرًا إلَى الْعَقْدِ وَلَا إلَى الْعَاقِدِ وَمَقْصُودُهُ كَذَا فِي شَرْحِ تَاجِ الشَّرِيعَةِ
(وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجَانِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ وَالتَّارِيخِ فَصَاحِبُ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ أَوْلَى) هَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّهُ) أَيْ لِأَنَّ صَاحِبَ التَّارِيخِ الْأَقْدَمِ (أَثْبَتَ أَنَّهُ أَوَّلُ الْمَالِكَيْنِ فَلَا يُتَلَقَّى الْمِلْكُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute