لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قَامَتْ عَلَى مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ فَاسْتَوَيَا، وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ فَيَقْضِي لَهُ
وَهَذَا جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ. وَأَمَّا جَوَابُ الْقِيَاسِ فَالْخَارِجُ أَوْلَى، وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى. وَوَجْهُهُ أَنَّ بِبِنَّةِ الْخَارِجِ أَكْثَرُ اسْتِحْقَاقًا مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ لِأَنَّ الْخَارِجَ بِبَيِّنَتِهِ كَمَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالنِّتَاجِ يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِذِي الْيَدِ بِظَاهِرِ يَدِهِ، وَذُو الْيَدِ بِبَيِّنَتِهِ لَا يُثْبِتُ اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْخَارِجِ بِوَجْهٍ مَا، فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ كَمَا فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَكَثِيرٍ مِنْ الشُّرُوحِ. وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ) أَيْ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ (قَامَتْ عَلَى مَا لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْيَدُ) وَهُوَ أَوَّلِيَّةُ الْمِلْكِ بِالنِّتَاجِ كَبَيِّنَةِ الْخَارِجِ (فَاسْتَوَيَا وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ فَيَقْضِي لَهُ) أَيْ لِذِي الْيَدِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهَا لِلْخَارِجِ أَوْ بَعْدَهُ. أَمَّا قَبْلَهُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلِأَنَّ ذَا الْيَدِ لَمْ يَصِرْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ دَافِعَةٌ لِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ لِأَنَّ النِّتَاجَ لَا يَتَكَرَّرُ، فَإِذَا ظَهَرَتْ بَيِّنَةٌ دَافِعَةٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنِدًا إلَى حُجَّةٍ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا، كَذَا قَرَّرَ فِي الْعِنَايَةِ وَاكْتَفَى بِهِ. أَقُولُ: يُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ بِهَذَا التَّقْرِيرِ لَا يَدْفَعُ مَا ذَكَرُوا مِنْ وَجْهِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ تَسَاوِيَ الْبَيِّنَتَيْنِ مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ كُلِّ وَجْهٍ مِنْهُمَا عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِالنِّتَاجِ لَا يُنَافِي أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَكْثَرَ إثْبَاتًا لِلِاسْتِحْقَاقِ مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَةِ إثْبَاتِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِذِي الْيَدِ بِظَاهِرِ يَدِهِ، وَعَدَمِ إثْبَاتِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْخَارِجِ بِوَجْهٍ مَا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى بِنَاءً عَلَى زِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ.
وَقَدْ كَانَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ تَدَارَكَا ذَلِكَ فَزَادَا فِي تَقْرِيرِهِمَا شَيْئًا لِدَفْعِهِ حَيْثُ قَالَا: وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ أَكْثَرُ اسْتِحْقَاقًا. قُلْنَا: نَعَمْ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّ فِي بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ سَبْقُ التَّارِيخِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ فَكَانَ أَوْلَى أَلَا يَرَى أَنَّهُمَا لَوْ ادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا وَأَرَّخَا وَذُو الْيَدِ أَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا يَقْضِي لِذِي الْيَدِ وَإِنْ كَانَتْ فِي بَيِّنَةِ الْخَارِجِ زِيَادَةُ اسْتِحْقَاقٍ عَلَى ذِي الْيَدِ انْتَهَى.
أَقُولُ: وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ كَوْنَ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ مُثْبِتَةً لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ إنَّمَا نَشَأَ مِنْ إثْبَاتِهَا النِّتَاجَ الَّذِي لَا يَتَكَرَّرُ، وَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَصَاحِبِ الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى النِّتَاجِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ هَاهُنَا وَفِيمَا إذَا لَمْ يَذْكُرَا تَارِيخًا، فَإِنَّ مَا إذَا ذَكَرَا تَارِيخَا مَسْأَلَةٍ أُخْرَى لَهَا أَقْسَامٌ وَأَحْكَامٌ أُخَرُ كَمَا سَيَجِيءُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ، فَإِذًا لَا مَعْنَى لِسَبْقِ التَّارِيخِ فِي بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي مَسْأَلَتِنَا هَذِهِ فَلَا تَمْشِيَةَ لِلتَّوْجِيهِ الَّذِي ذَكَرَاهُ هَاهُنَا. وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي لَا يَحُومُ حَوْلَهُ شَائِبَةُ إشْكَالٍ هَاهُنَا مَا رَوَى أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْهَيْثَمِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى نَاقَةً فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَاقَتُهُ نَتَجَهَا وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute