للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهُوَ مِثْلُ الْخَزِّ وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَزِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ وَالْحُبُوبِ، فَإِنْ أَشْكَلَ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ لِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِهِ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِبَيِّنَتِهِ هُوَ الْأَصْلُ وَالْعُدُولُ عَنْهُ بِخَبَرِ النِّتَاجِ،

إثْبَاتًا كَمَا فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ إلَّا سَبَبٌ وَاحِدٌ هُوَ الْخَارِجُ، بِخِلَافِ مَا سَيَجِيءُ بَعْدَ أَسْطُرٍ حَيْثُ يَقْضِي هُنَاكَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ بِالْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى اعْتِبَارِ السَّبَبَيْنِ وَيَكُونُ الْمُدَّعَى لِلْخَارِجِ؛ فَيُتَّجَهُ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامَيْنِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ السَّبَبَ يُرَادُ لِحُكْمِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ، وَحَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِذِي الْيَدِ لَمْ يَكُنْ السَّبَبُ مُفِيدًا لِحُكْمِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ، وَسَيَتَّضِحُ لَك الْأَمْرُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ النِّهَايَةِ مِنْ الْمَعْنَى لَيْسَ عِلَّةً لِلْقَضَاءِ لِلْخَارِجِ فِيمَا يَتَكَرَّرُ مِنْ الْأَسْبَابِ حَتَّى يُقَالَ: كَيْفَ تُنْقَضُ الْيَدُ الثَّابِتَةُ بِالْمُحْتَمَلِ الْمَشْكُوكِ، بَلْ هُوَ مُجَرَّدُ بَيَانِ كَوْنِ الدَّعْوَى بِسَبَبٍ يَتَكَرَّرُ فِي مَعْنَى دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ دُونَ دَعْوَى النِّتَاجِ حَيْثُ لَا يَدُلُّ السَّبَبُ الَّذِي يَتَكَرَّرُ عَلَى أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ كَالنِّتَاجِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَثْبُتَ بِهِ الْمِلْكُ أَوَّلًا وَثَانِيًا كَالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، وَإِنَّمَا عِلَّةُ الْقَضَاءِ لِلْخَارِجِ بَعْدَ تَقَرُّرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَوْنُ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَكْثَرَ إثْبَاتًا مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ كَمَا تَحَقَّقَ فِي مَسْأَلَةِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِهِ هَاهُنَا، وَمَفَاسِدُ قِلَّةِ التَّأَمُّلِ مِمَّا يَضِيقُ عَنْ الْإِحَاطَةِ بِهِ نِطَاقُ الْبَيَانِ، وَاسْتَشْكَلَ ذَلِكَ الْبَعْضُ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ وَإِنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ: إنَّ الشِّرَاءَ سَبَبٌ يَتَكَرَّرُ مَعَ أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ أَوْلَى فَلَا بُدَّ مِنْ الْفَرْقِ. أَقُولُ: إذَا ادَّعَى الْخَارِجُ الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلٍ وَادَّعَاهُ ذُو الْيَدِ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَحُكْمِ مَا إذَا ادَّعَيَا الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ فَلَا تَفَاوَتَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَذَكَرَهُ الشَّارِحُ الْأَتْقَانِيُّ فِيمَا مَرَّ نَقْلًا عَنْ مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ فَلَا اشْتِبَاهَ هُنَاكَ.

وَأَمَّا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ وَاحِدٍ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى كَمَا مَرَّ فِي الْكِتَابِ. فَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نَحْنُ فِيهِ هُوَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ هُنَاكَ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى ثَالِثٍ حَيْثُ ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ جِهَتِهِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، فَكَانَ مَا ادَّعَيَاهُ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ لَا سَبَبَ الْمِلْكِ وَحْدَهُ فَلَمْ يَكُنْ مَعْنَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَلَعَلَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إيمَاءً إلَى ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَكَذَلِكَ كُلُّ سَبَبٍ فِي الْمِلْكِ لَا يَتَكَرَّرُ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ قُضِيَ بِهِ لِلْخَارِجِ فَاعْتَبَرَ اخْتِلَافَ حُكْمَيْ مَا يَتَكَرَّرُ وَمَا لَا يَتَكَرَّرُ فِي سَبَبِ الْمِلْكِ احْتِرَازًا عَنْ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ (وَهُوَ) أَيْ السَّبَبُ الْمُتَكَرِّرُ فِي الْمِلْكِ (مِثْلُ الْخَزِّ) أَيْ مِثْلُ نَسْجِ الْخَزِّ: وَهُوَ اسْمُ دَابَّةٍ ثُمَّ سُمِّيَ الثَّوْبُ الْمُتَّخَذُ مِنْ وَبَرِهِ خَزًّا، كَذَا فِي الْمُغْرِبِ.

قِيلَ: هُوَ يُنْسَجُ فَإِذَا بَلِيَ يُغْزَلُ مَرَّةً أُخْرَى وَيُنْسَجُ (وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ وَزِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ وَالْحُبُوبِ) أَيْ وَزِرَاعَةِ الْحِنْطَةِ وَسَائِرِ الْحُبُوبِ، فَإِذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ ثَوْبًا أَنَّهُ مِلْكُهُ نَسَجَهُ مِنْ خَزِّهِ، أَوْ ادَّعَى دَارًا أَنَّهَا مِلْكُهُ بَنَاهَا بِمَالِهِ أَوْ ادَّعَى غَرْسًا أَنَّهُ مِلْكُهُ غَرَسَهُ. أَوْ ادَّعَى حِنْطَةً أَنَّهَا مِلْكُهُ زَرَعَهَا أَوْ حَبًّا آخَرَ مِنْ الْحُبُوبِ كَذَلِكَ وَأَقَامَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً قُضِيَ بِذَلِكَ لِلْخَارِجِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ كُلِّهَا لِأَنَّ أَسْبَابَ الْمِلْكِ فِيهَا لَيْسَتْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ لِتَكَرُّرِهَا أَمَّا الْخَزُّ فَلِمَا نَقَلْنَاهُ، وَأَمَّا الْبِنَاءُ فَلِأَنَّهُ يَكُونُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَأَمَّا الْغَرْسُ فَكَذَلِكَ، وَأَمَّا الْحِنْطَةُ وَالْحُبُوبُ فَلِأَنَّهَا تُزْرَعُ ثُمَّ يُغَرْبَلُ التُّرَابُ فَتَتَمَيَّزُ الْحِنْطَةُ وَالْحُبُوبُ ثُمَّ تُزْرَعُ ثَانِيَةً، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَاهُ لَمْ تُلْحَقْ بِهِ بَلْ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ (فَإِنْ أَشْكَلَ) أَيْ فَإِنْ أَشْكَلَ شَيْءٌ لَا يَتَيَقَّنُ بِالتَّكْرَارِ وَعَدَمِهِ فِيهِ (يَرْجِعُ إلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ) أَيْ يَسْأَلُ الْقَاضِي أَهْلَ الْعِلْمِ عَنْ ذَلِكَ: يَعْنِي الْعُدُولَ مِنْهُمْ وَيَبْنِي حُكْمَهُ عَلَى قَوْلِهِمْ (لِأَنَّهُمْ أَعْرَفُ بِهِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَكْفِي وَالِاثْنَانِ أَحْوَطُ وَكَذَا فِي النِّهَايَةِ نَقْلًا عَنْ الْمَبْسُوطِ وَالذَّخِيرَةِ (فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ) أَيْ فَإِنْ أَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْخِبْرَةِ أَيْضًا (قُضِيَ بِهِ) أَيْ بِالْمُشْكِلِ (لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِبَيِّنَتِهِ) أَيْ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ (هُوَ الْأَصْلُ) لِأَنَّهُ الْقِيَاسُ (وَالْعُدُولُ عَنْهُ بِخَبَرِ النِّتَاجِ) أَيْ وَالْعُدُولُ عَنْ الْأَصْلِ كَانَ بِخَبَرِ النِّتَاجِ: أَيْ بِحَدِيثِ النِّتَاجِ، وَهُوَ حَدِيثُ جَابِرٍ كَمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فِي وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ

<<  <  ج: ص:  >  >>