للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَا بُدَّ مِنْ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ لَازِمٍ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الِالْتِزَامِ، إلَّا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْبَالِغِ بِحُكْمِ الْإِذْنِ، وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَلْزَمُ مَجْهُولًا بِأَنْ أَتْلَفَ مَالًا لَا يَدْرِي قِيمَتَهُ أَوْ يَجْرَحَ جِرَاحَةً لَا يَعْلَمُ أَرْشَهَا أَوْ تَبْقَى عَلَيْهِ بَاقِيَةُ حِسَابٍ لَا يُحِيطُ بِهِ عِلْمُهُ، وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ بِهِ، بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ فِي الْمُقَرِّ لَهُ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ مُسْتَحِقًّا،

وَالْآدَمِيَّةُ لَا تَزُولُ بِالرِّقِّ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: هَذَا اسْتِدْلَالٌ لَا يُدْفَعُ مَا لَوْ قِيلَ فِي إقْرَارِهِ بِالْقِصَاصِ إهْلَاكَ رَقَبَتِهِ الَّتِي هِيَ مَالُ الْمَوْلَى فَيَكُونُ إقْرَارًا عَلَى الْغَيْرِ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِمَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ انْتَهَى.

أَقُولُ: بَلْ ذَلِكَ مَدْفُوعٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِصَاصِ وَإِهْلَاكُ مَالِيَّةِ رَقَبَةِ الْعَبْدِ إنَّمَا هُوَ بِالتَّبَعِ فَلَا يَكُونُ إقْرَارُهُ بِالْقِصَاصِ إقْرَارًا عَلَى الْغَيْرِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ أَصَالَةً، وَلَا يَضُرُّهُ لُزُومُ إهْلَاكِ مَالِ الْغَيْرِ بِالتَّبَعِ، إذْ كَمْ مِنْ شَيْءٍ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَلَا يَثْبُتُ أَصَالَةً وَذُكِرَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعَبْدَ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْحَدِّ وَالْقِصَاصِ وَالسَّرِقَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ؛ لِأَنَّ الْحَيَاةَ وَالدَّمَ حَقُّهُ لِاحْتِيَاجِهِ إلَيْهِمَا فِي الْبَقَاءِ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إتْلَافَهُمَا. وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا تَوَهَّمَهُ ذَلِكَ الْقَائِلُ يَتَوَجَّهُ إلَى مَا ذُكِرَ فِيهَا أَيْضًا وَالْمُخَلَّصُ مَا حَقَقْنَاهُ (وَلَا بُدَّ مِنْ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ غَيْرُ لَازِمٍ لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الِالْتِزَامِ) فَلَا يَلْزَمُ إقْرَارَهُمَا شَيْءٌ (إلَّا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ) فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي قَدْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ (لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْبَالِغِ بِحُكْمِ الْإِذْنِ) لَا بِخِيَارِ رَأْيِهِ بِرَأْيِ الْوَلِيِّ فَيُعْتَبَرُ كَالْبَالِغِ وَالنَّائِمُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ كَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ، وَهُمَا شَرْطَانِ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ، وَإِقْرَارُ السَّكْرَانِ جَائِزٌ بِالْحُقُوقِ كُلِّهَا إلَّا بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، وَالرِّدَّةُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ تَنْفُذُ مِنْ السَّكْرَانِ كَمَا تَنْفُذُ مِنْ الصَّاحِي، كَذَا فِي الْكَافِي وَمِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ (وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ) يَعْنِي لَوْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مَجْهُولًا بِأَنْ قَالَ الْمُقِرُّ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ شَيْءٌ أَوْ حَقٌّ يَصِحُّ الْإِقْرَارُ وَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ (لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَلْزَمُ مَجْهُولًا) يَعْنِي أَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَلْزَمُ الْإِنْسَانَ مَجْهُولًا (بِأَنْ أَتْلَفَ مَالًا لَا يَدْرِي قِيمَتَهُ أَوْ يَجْرَحَ جِرَاحَةً لَا يَعْلَمُ أَرْشَهَا) لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْجِرَاحَاتِ أَنْ يَسْتَأْنِيَ حَوْلًا فَلَا يَعْلَمُ فِي الْحَالِ مُوجَبَهُ (أَوْ تَبْقَى عَلَيْهِ بَقِيَّةُ حِسَابٍ لَا يُحِيطُ بِهِ) أَيْ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْحِسَابِ (عِلْمُهُ وَالْإِقْرَارُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيَصِحُّ بِهِ) أَيْ فَيَصِحُّ بِكَوْنِ الْمُقَرِّ بِهِ مَجْهُولًا.

فَإِنْ قُلْت: الشَّهَادَةُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْحَقِّ أَيْضًا وَمَعَ ذَلِكَ تُمْنَعُ صِحَّتُهَا بِجَهَالَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا. قُلْت: الشَّرْعُ لَمْ يَجْعَلْ الشَّهَادَةَ حُجَّةً إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ وَقَالَ النَّبِيُّ «إذَا رَأَيْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» وَأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ حَقًّا إلَّا بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إلَيْهَا، وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ لَا يُتَصَوَّرُ، أَمَّا الْإِقْرَارُ فَمُوجِبٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ، وَقَدْ أَمْكَنَ إزَالَةُ الْجَهَالَةِ بِالْإِجْبَارِ عَلَى الْبَيَانِ فَيَصِحُّ بِالْمَجْهُولِ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ وَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الشَّهَادَةِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ (بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ فِي الْمُقَرِّ لَهُ) يَعْنِي أَنَّهَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ (لِأَنَّ الْمَجْهُولَ لَا يَصْلُحُ مُسْتَحِقًّا) ذَكَرَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَبْسُوطِهِ وَالنَّاطِفِيُّ فِي وَاقِعَاتِهِ أَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ لَهُ إنَّمَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ إذَا

<<  <  ج: ص:  >  >>