(وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ فَالْمَرْجِعُ إلَيْهِ فِي بَيَانِهِ لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ) لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّلُ بِهِ (إلَّا أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ)
فِيهِ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْرِي فِي الْأَمْوَالِ. وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ بَيَانُهُ بِهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْغَصْبِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ فَبَيَانُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ يَكُونُ إنْكَارًا لِحُكْمِ الْغَصْبِ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِسَبَبِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْهُ، إلَى هُنَا لَفْظُ الْمَبْسُوطِ.
وَصَرَّحَ فِي الْإِيضَاحِ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ وَهُوَ قَبُولُ بَيَانِهِ بِأَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ.
وَالثَّانِي وَهُوَ عَدَمُ قَبُولِ بَيَانِهِ بِذَلِكَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. وَإِذَا قَدْ عَرَفْت ذَلِكَ تَبَيَّنَ لَك أَنَّ الْمُصَنِّفَ اخْتَارَ هَاهُنَا قَوْلَ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ حَيْثُ قَالَ: وَيَجِبُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ: يَعْنِي أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْغَصْبِ يَنْطَلِقُ عَلَى أَخْذِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي الْعُرْفِ. هَذَا وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَكَذَا لَوْ قَالَ غَصَبْت مِنْهُ شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ، حَتَّى لَوْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ لَا يَصِحُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ. وَقِيلَ يَصِحُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ الْغَصْبَ أَخْذُ مَالٍ فَحُكْمُهُ لَا يَجْرِي فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ حَتَّى لَوْ بَيَّنَ فِي حَبَّةِ حِنْطَةٍ أَوْ فِي قَطْرَةِ مَاءٍ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِغَصْبِ ذَلِكَ فَكَانَتْ مُكَذِّبَةً لَهُ فِي بَيَانِهِ، وَلَوْ بَيَّنَ فِي الْعَقَارِ أَوْ فِي خَمْرِ الْمُسْلِمِ يَصِحُّ لِأَنَّهُ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْغَصْبُ أَخْذُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَرَمٍ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ يَدَهُ وَهُوَ لَا يُصَدَّقُ عَلَى الْعَقَارِ وَخَمْرِ الْمُسْلِمِ فَلَزِمَ نَقْضُ التَّعْرِيفِ أَوْ عَدَمُ قَبُولِ الْبَيَانِ فِيهِمَا. فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَتُهُ، وَقَدْ تُتْرَكُ الْحَقِيقَةُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ كَمَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ، إلَى هُنَا كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ، أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ صِحَّةَ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ: الْعَادَةِ تُنَافِي صِحَّةَ مَا ذَكَرَهُ فِي تَعْلِيلِ أَصِحِّيَّةِ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِيمَا لَوْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ زَوْجَتُهُ أَوْ وَلَدُهُ مِنْ أَنَّ الْغَصْبَ أَخْذُ مَالٍ فَحُكْمُهُ لَا يَجْرِي فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ؛ لِأَنَّ مَشَايِخَ الْعِرَاقِ يَقُولُونَ: إنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ عَادَةً، وَالتَّمَانُعُ فِيهِ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْرِي فِي الْأَمْوَالِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْمَبْسُوطِ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْهُمْ إلَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ تُتْرَكُ فِي ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ تَعْلِيلُ أَصَحِّيَّةِ اخْتِيَارِ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ فِيهِ بِأَنَّ الْغَصْبَ أَخْذُ مَالٍ فَحُكْمُهُ لَا يَجْرِي فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ. وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: تَعْوِيلًا عَلَى الْعَادَةِ عِلَّةٌ لِوُجُوبِ أَنْ يُبَيِّنَ مَا هُوَ مَالٌ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ وَإِنْ تَنَاوَلَتْ مَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ مِنْ الْأَمْوَالِ وَمَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ مِنْهَا، إلَّا أَنَّ الْعَادَةَ خَصَّصَتْهُ بِالْأَوَّلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ، وَمَقْصُودُهُ الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَوْ بَيَّنَ حَبَّةَ حِنْطَةٍ أَوْ قَطْرَةَ مَاءٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ قَطْعًا. وَأَمَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَصْبِ تُتْرَكُ بِدَلَالَةِ الْعَادَةِ إلَى مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا فَلَا إشَارَةَ إلَيْهِ فِي كَلَامِهِ أَصْلًا، كَيْفَ وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَكَانَ فِي كَلَامِهِ إشَارَةً إلَيْهِ لَمَا صَحَّ الْقَوْلُ مِنْهُ بِوُجُوبِ أَنْ يُبَيِّنَ مَالًا، إذْ الْعَادَةُ جَارِيَةٌ قَطْعًا عَلَى إطْلَاقِ لَفْظِ الْغَصْبِ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ إطْلَاقًا جَارِيًا عَلَى اللُّغَةِ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ هَاهُنَا مَسُوقٌ عَلَى مَا هُوَ مُخْتَارُ مَشَايِخِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ دُونَ مُخْتَارِ مَشَايِخِ الْعِرَاقِ، وَفِيمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ خَلْطٌ لِلْمَذْهَبَيْنِ.
(وَلَوْ قَالَ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ فَالْمَرْجِعُ إلَيْهِ فِي بَيَانِهِ) وَهَذَا لَفْظُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: يَعْنِي لَوْ قَالَ أَحَدٌ فِي إقْرَارِهِ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ مَالٌ فَالرُّجُوعُ إلَى الْمُقِرِّ فِي بَيَانِ قَدْرِ الْمَالِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ (لِأَنَّهُ الْمُجْمِلُ) يَعْنِي أَنَّ الْمُقِرَّ هُوَ الْمُجْمِلُ وَالرُّجُوعُ فِي بَيَانِ الْمُجْمَلِ إلَى الْمُجْمِلِ (وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ) وَهَذَا مِنْ تَتِمَّةِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ. قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِهِ: (لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالٌ، فَإِنَّهُ) أَيْ الْمَالُ (اسْمٌ لِمَا يُتَمَوَّلُ بِهِ) وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (إلَّا أَنَّهُ) أَيْ الْمُقِرَّ (لَا يُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ) وَالْقِيَاسُ أَنْ يُصَدَّقَ فِيهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مَالٌ. وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا يُصَدَّقُ فِيهِ، وَجْهُهُ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute